فكر كده للحظة حين تقابله فى إشارة مرور مغلقة أو مختنقا فى زحام كوبرى، كيف وأين يعيش؟ هذا الطفل البائس، الذى تجاوز اليأس إلى ابتسامة فاترة لا تعنى له أكثر من «أننى ودعت براءة الطفولة»، طفل نسميه خوفا أو كذبا أو استسهالا أو «استهبالا»: طفل الشوارع!
يعنى إيه؟
هل نصف بها حاله؟ أم حالنا؟ خوفه أم خوفنا؟ فقره المعيب أم فقرنا المخزى؟ براعة تقاسيم الطفولة التى ترفض أن تغادر الملامح الصغيرة، رغم البرد والجوع والإحساس بالغربة أم بشاعة قلوبنا التى تعبر على الوجوه ألف مرة فى اليوم دون أن يهتز لها قلب أو جفن أو معدة شبعانة؟
«هشششش»، بحركة باليد بإيماءة من وجه صلب دون ملامح، نرغب فى ابتعادهم عن طريقنا اليومى، حتى لا نرى أو لا نتوقف، المشهد أصبح جزءا من يومياتنا، أطفال شوارع، نصفهم بنات صغيرات تكاد براءة عيونهن وهن يتسولن لقمة تخلع جزءا حقيقيا منك، تغلق زجاج السيارة لو كان نصفه مفتوحا، أو تشتم أحدهم إن ألح وهو يشير إلى بطنه الجائعة، قليل يعطى ليمضى أو ويمضى، وأقل القليل توجع قلبه المشاهد، فيسعى إلى تقديم حلول من صنع يديه، كأن يقدم وجبات ساخنة لبعضهم فى إشارة مرور أو بعض ملابس تحمى ما تبقى من هذه الجلود الطرية البريئة.
هل فكرت؟
نعم، هناك يا صديقى من «يُسَرِّح» الأطفال، من يُوَظِّف طفولتهم المكسورة ويكسب من كدهم اليومى صيفا شتاء مقابل أن يؤويهم فى مكان غير آدمى، من أوصلهم إلى هناك؟ هاربون من أين أو متسربون من أى ثقب فى سماء أيامنا الصعبة؟
هناك أرقام شبه رسمية سربتها الدولة ذاتها تقول إن العدد وصل إلى 2 مليون طفل سارحين فى الشوارع لا مأوى لا سكن لا لقمة لا هدمة لا قلم لا كراسة، لا حياة إذاً. عدد مرعب مهول يخيف أى دولة، يخيف قبلها أى حاكم، أى مواطن، أى إنسان.
سوف أخفض الرقم من عندى إلى مليون طفل بين عمر سنة وعشر سنوات، فهل لدى أحد سر عن هذا الرقم؟ كيف تحول إلى ستة أصفار؟ ما شكل المأوى الذى يعيشون فيه؟ لقد تتبعت يوما مسير ومصير عشرة أطفال فى إشارة مرور، دفعنى فضول إنسانى قبل الصحفى، ونشرت ذلك بالصور وقتها، مندهشا من وجود أطفال الشوارع فى عنابر يقيمها رجل ما على علاقة بمسؤول فى الدولة وقتها، عنابر تشبه السجون الباردة، مع فضلات طعام، من أجل مكاسب جنيهات يجمعها الأطفال، فتصبح فى آخر النهار ثروة تصل إلى مائة ألف جنيه!
إنها مافيا أطفال الشوارع فى مصر التى ستظل تتحدى أى مسؤول يقترب منها لحل أو إنقاذ، من يملك أن ينفذ إلى بيزنس يقدر كل شهر بأكثر من مليار جنيه؟ من تحمس مرة ليقترب من معيشة هؤلاء الأطفال لكى يفهم ويفك شفرة وصول هذا الرقم الضخم إلى أطفال شوارع؟ هل هم لقطاء أم أولاد حرام أم أيتام أم مخطوفون أم ماذا؟
أُذَكِّر الرئيس عبدالفتاح السيسى- وسط زحام الأحداث- بأنه وعد بحل هذه المشكلة، وكنت قد التقيت به فى منصب وزير الدفاع وكان فى بدايات وعده بعمل مدن تتسع لحياة آمنة مستقرة آدمية تتوافر فيها الصحة والتعليم والطفولة لهم.
وأتمنى، تمنيت الحقيقة، أن يكون الأمر من الأولويات، خاصة أن المهمة كانت قد حملتها القوات المسلحة المصرية، فهى قادرة، كما أنه يمكن لكثير من الناس أن يتطوع لهذه المهمة الإنسانية النبيلة التى لا بعدها نبل وأخلاق.
فهل نبدأ؟
وهل أنبه أخيرا إلى أن الواجب الإنسانى يحتم أن نشعر بهؤلاء الأطفال ونحن فى عتمة الشتاء وبرودته التى لا ترحم، وألا نستخدم عبارات الشجب والهش والضيق والقرف منهم، مهما كانت قسوة هؤلاء الأطفال على حياتنا ومجتمعنا، فلا تنسَهم بابتسامة ولقمة ساخنة وقطعة ملابس، ربما لا يمد أحد يده لينزعها عن جلده الناعم. قسوتهم لم يصنعوها.. إنما صنعتها ظروف كثيرة، نحن منها.