x

فاطمة ناعوت صباح الخير يا صبوحة فاطمة ناعوت الأحد 30-11-2014 21:52


طارت إذن الشحرورة ذاتُ الصوت النُحاسيّ الآسر الذى كان يعلو فوق جواب أو كتاڤ السُّلّم الموسيقى، فيرفعُ العازفون الأقواسَ عن أوتارها ويُنزلون أياديهم عن آلاتهم ويصمتون، حين لا تقدرُ قيثاراتُهم أن تُجارى ذاك الصوتَ الجموح الذى يُفجّر حدود الرحب الموسيقى. طارت التى كان أبى يُدير صوتَها على جهاز الجروندج العتيق ذى الأسطوانتين، لتصدح فى بيتنا القديم: «يا عينى ع البساطة، قديش مستحلية أعيش جنبك يا بو الدارويش، غدينى جبنة وزيتون وتعشينى بطاطا، ما بدى قصور ولا جاه، بس بدى عاشق أهواه» ليرسل لعروسه الجميلة، أمى، رسائلَ شَدْوية، غير مباشرة، ليواجه إصرارَها على تعليم طفليها فى مدارس راقية مثل عائلتها، بينما يجنح أبى المتصوف إلى بساطة الأمور شأنَ الصوفية، فكأنما يناجيها بـصوت الشحرورة علّ العنيدةَ تُحجِّم من طموحات تنوء عنها ميزانيةُ أسرةٍ تخطو خُطاها الأولى فى الحياة. كانت أمى تدلّل طفولتى بـ«أمورتى الحلوة»، وبعدما كبرتُ كانت تبادرنى بقولها: «وأقول خلاص دى كبرت وهتبقى مهندسة». طارت التى غازلت صباى بقولها: «ع الضيعة يامّا ع الضيعة، ودينى وبلاها البيعة، جينا نبيع كبوش التوت، ضيّعنا القلب فى بيروت، يا شماتة شباب الضيعة...» فينطلق خيالُ طفولتى مع صبايا لبنان وهنّ يجمعن عناقيد التوت، لأبحث لنفسى عن «مرقد عنزة» ببيروت أنتظرُ فيه معهن الشابَّ الوسيمَ الذى سيخطف قلبى مع الخاطفين قلوبَ البنات.

فهل أرتاح الآن ثقلاءُ الظلّ الذين كانوا يتعجّلون موتَها، كأنما يحيونها من أعمارهم ويطعمونها من طعامهم؟! أتعجبُ لماذا تراقب العقولُ العربيةُ المريضةُ «المرأةَ» وتنشغلُ بتفاصيل يومها وجسدها وملابسها وحياتها وتُحصى عليها سنوات عمرها، فتقلق إن زادت عمّا خططوا لها، كأنما هم الله (!)، بينما يُفجعون إن رحل رجلٌ فى أرذل العمر، كما فُجعنا فى موت نجيب محفوظ مثلا، ولم يتعجل أحدٌ موته وقد شارف المائة! لماذا على المرأة أن تطير مبكرًا وإلا نعتها المتخلفون بنعوت قميئة، وينسون كم منحتهم تلك الجميلةُ من بهجات وزيّنت لحظات فرحهم بصوتها المثقف؟ نكاتٌ ركيكة وشائعات سمجة بموتها ظلّت تتطاير على مسامع الجميلة ومسامعنا على مدى عقود طوال، كأنما العمر جريمةٌ، ليعلم اللهُ وحده عمقَ الشروخ التى كانت تتركها فى روحها.

لستُ أدرى إن كانت الشحرورة، سوف تقرأ هذا المقال فى فردوسها أم لا، وإن كنت أرجو ألا تقرأه؛ لأنه ليس موجهًا لها، إنما موجه لكل بليد روح أساء إليها، سواء عن جهل، أو من باب الاستظراف. أما أنتِ فأقول لكِ: صباح الخير يا صبوحة.
[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية