x

عبد المنعم سعيد تغيير الجغرافيا المصرية عبد المنعم سعيد السبت 22-11-2014 21:41


ربما لن يكون لأى من إجراءات وخطط الإصلاح الاقتصادى والمشروعات التنموية المصاحبة له تأثير جذرى على الحالة المصرية فى عمومها، قدر تغيير خريطة البلاد والتوزيع الإدارى فيها. وفى البداية فإن قدرا من الاحتجاج ضرورى على أن ما نشر فى الموضوع أقل بكثير مما يجب، رغم أن إعلانات جرت حول اجتماعات وبحث فى الموضوع على مستوى رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ووزير التنمية المحلية.

فليس كافيا بالمرة أن يكون المشروع باقيا ومحورا للاهتمام على أعلى المستويات، فمن ناحية فإن بقاء الغموض على حاله يفتح أبوابا لخلط الأوراق والموضوعات، ومن ناحية أخرى فإن الرأى العام لا يعطى القضية حقها فى المناقشة حينما لا تصير أكثر من لافتة لأمل آخر يضاف إلى قائمة طويلة من الآمال المحبطة التى أصابها وهن طول الانتظار.

وبصراحة، فإن الانتصار على الإرهاب، وعلى الحرب المعنوية والنفسية والدعائية التى تشنها جماعة الإخوان المسلمين وأنصارهم فى الداخل والخارج - لن يتحقق إلا بتغيير الواقع على الأرض، وفى خطوات متتابعة بالغة الجدية والتصميم. فما يفعله هؤلاء فضلا عن جريمة ما يفعلون، فإنهم يستثمرون تراثا طويلا من الشك وعدم اليقين والثقة بأن الحكومة بالفعل تعنى ما تقول. فليس سرا على أحد أن عبقرية مشروع قناة السويس جاءت أساسا من مشاهدة بداية العمل على الأرض، وساعتها لم ينتظر المصريون فشاركوا عملا، ودفعوا مالا.

الحالة مماثلة فى مشروع تغيير الخريطة المصرية، لأنه ربما ساعتها سوف يتغير تاريخ مصر أيضا، ومن يعلم؟ فربما تخرج من دائرة مفرغة من الإخفاق المستمر بعد آمال وأحلام عظيمة. وهذه المرة جاء الخلط عندما حلت ساعة تحديد الدوائر الانتخابية، فبدا موضوع الخريطة كأنه جزء من الخطة الحكومية لإعادة توزيع مقاعد المجلس التشريعى. أما الآمال العظمى فلم يعد لها فى الصبر طاقة، بينما الحكومة تفكر، ثم تفكر مرة أخرى فى عشرات المشروعات التى تلمع فى اجتماع على مستويات عليا تنقله الصحف وشاشات التليفزيون، ومن بعده نحتاج فترة صبر أخرى. والحقيقة هى أنه لا توجد علاقة ما بين تغيير الخريطة المصرية والدوائر الانتخابية، فالأولى هى تغيير فى الجغرافيا، والثانية قراءة للعلاقة بين التوزيع السكانى والتمثيل فى السلطة الشريعية. الأولى تقع فى صميم التنمية، والثانية هى تعبير عن قلب السياسة. ورغم أهمية الانتخابات التشريعية وما يتعلق بها من خطوات فإن فك الارتباط بينها وبين خريطة مصر سوف يسمح بالتعامل مع ما هو واقع من توزيع جغرافى وديمغرافى، وما هو مستقبل يعيد توزيع ما تواضعنا عليه على مدى أكثر من ستة آلاف عام.

ما يدهش فى الموضوع أن تغييرات أساسية جرت فى الشخصية المصرية التى تربت على المعيشة فى حضن نهر النيل وواديه المخصب طبيعيا بالطمى. وطبقا لأكثر التقديرات محافظة فإن هناك ما يتراوح حول ثمانية ملايين نسمة من المصريين يعيشون حاليا فى الخارج فى بيئات مختلفة بين دول الخليج العربية الحارة والرطبة، ودول أوروبا والشمال الأمريكى الباردة. والحقيقة أن المصريين يعيشون فى معظم بلدان المعمورة، فسواء كنت فى صحيفة «الأهرام» الغراء أو «المصرى اليوم» الغراء أيضا، فإن تحليل زيارات الموقع الإلكترونى يشير إلى تواجد مصرى فى جزر بعيدة، مثل فيجى فى المحيط الباسفيكى والدومنيكيان فى المحيط الأطلنطى (كان إنشاء موقع إلكترونى للأهرام واحدا من ١١٢ مبادرة لنقل المؤسسة من طبيعتها كمؤسسة صحفية إلى واقع جديد كمؤسسة إعلامية خالية من الديون وتزيد فيها دخول العاملين، وتم ذلك بالفعل نتيجة جهود الزملاء عبدالله عبدالسلام وهانى شكرالله، وفى شهر مارس ٢٠١١ بلغ ترتيب الموقع عالميا ٧٥٨ ولا أدرى ما حقيقة الحال الآن، ولكن ذلك موضوع آخر سوف يكون له وقته وزمانه).

تجربة المصريين فى منطقة الخليج، حيث الصحراء واقعة فى حضن الماء المالح - جعلتهم يرون أنه من الممكن، كما فى دولة الإمارات العربية المتحدة، أن يعيش قرابة تسعة ملايين نسمة فى ظل وفرة مائية. بالطبع تعلم المصريون فى بلاد الغرب والشرق أن البعد ليس بالضرورة «غربة» ما دامت وسائل المواصلات جعلت القرب من النهر والأهل لا يزيد على ساعات بالطائرة، وغمضة عين (أو كليك على «ماوس» الكمبيوتر أو لمسة على سطح «الآى باد»).

ولم يعد مثيرا للدهشة أن يحكى مصريون كيف حضروا عيدا للميلاد يجرى فى القاهرة أو دمياط، أو حتى كتب كتاب أو حفل زفاف فى الإسكندرية أو أسيوط، من خلال الشاشات التى تنقل كل المشاهد، وعليها يجرى تبادل القبل (الإلكترونية بالطبع)، وتسمع الزغاريد. لم تعد فكرة الانتقال مرعبة كما كانت، والمهم أن يكون فيها ماء وعمل وحضارة. وباختصار استثمار. وذلك بالتحديد هو موضوع الخريطة المصرية الجديدة التى يمكن القول إن مراحلها «التجريبية» بدأت بالفعل خلال عهد ما قبل الثورات عندما أقيمت المدن الجديدة، مثل السادس من أكتوبر والقاهرة الجديدة والعاشر من رمضان، والمدن الساحلية، مثل شرم الشيخ والغردقة. وفى وقت من الأوقات كان يقال، على سبيل الأسف من التجربة كلها، إن هذه «مدن أشباح» فلا ذهب لها بشر، ولا حط عليها استثمار. ولم يحتج الأمر إلا سنوات قليلة أقيمت فيها طرق ومحاور ومطارات وموانٍ، فجاءت المصانع والفنادق، ومعها كان الازدحام والتكدس، كأنها باتت جزءا من الوادى القديم.

ما نتحدث عنه الآن ليس «تجربة» أخرى، إنه عملية انتقال من الوادى القديم فى الصعيد والدلتا إلى البحرين الأحمر والأبيض وسواحل سيناء. وليس مفهوما لماذا يمكن أن تقام دبى وأبوظبى على شاطئ الخليج العربى، وتقف شرم الشيخ على خليج العقبة، والغردقة على البحر الأحمر، ولا يتواجد عشرات مثلها تعيش فيها الملايين تصنع، وتتاجر، وتقدم خدمات من كل نوع. وبصراحة فإن الاعتماد على الحكومة والقطاع العام فى هذا الأمر سوف يعنى الانتظار لعشرات السنين حتى يتحقق هذا الأمر، ليس فقط لأن الحكومة والهيئات العامة ليس لديها رأس المال اللازم، وإنما لأنها ليس لديها الكفاءة المطلوبة للتعامل مع عمليات حضارية كبيرة على نطاق واسع.

الحكومة يمكنها أن تخطط، وأن تنظم، وأحيانا- إذا كان ذلك ضروريا جدا- أن تقيم بنية أساسية، فهذه أيضا تستطيع الاستثمارات الخاصة القيام بها. ما عدا ذلك فإنه فى ظل مناخ استثمار صحى فإن الأمر لن يحتاج أكثر من عقد من الزمان حتى نجد مدنا كبيرة موجودة بالفعل (رأس سدر، نويبع، دهب، العريش، القنطرة فى سيناء، مرسى علم وسفاجا والقصير والجونة والعين السخنة على البحر الأحمر، والعلمين ومارينا ومرسى مطروح على البحر الأبيض). فى كل هذه المواقع توجد بدايات مختنقة فى معظم الأحوال، إما لأنها تنتظر مياه النيل، أو لأنها تستغيث من ندرة الكهرباء التى تقدمها الحكومة. الغريب أن كليهما ممكن الحصول عليه من تحلية مياه البحر، ومن الطاقة الشمسية ومحطات لإنتاج الكهرباء تقيمها شركات مصرية وعالمية. وإذا كان ممكنا إنشاء كل هذه الناطحات للسحاب ذات التكييف المركزى، التى تصل المياه إلى كل أدوارها العليا فى دبى، فلماذا لا يكون الحال قائما لدينا أيضا؟!

قيل ذلك لدينا كثيرا، على سبيل العجب، ولكن ذلك هو معركة الرئيس السيسى وحكومة المهندس إبراهيم محلب لكى يجرى الاقتناع أننا لا نقيم عجبا، لكن واقعا جديدا سبقت إقامته فى عشرات من بلدان العالم، بل إننا أقمناه بالفعل فى مصر (راجع مدينة الجونة).

الجديد فى الأمر أننا نفعل ذلك على نطاق واسع، ووفقا لقوانين وقواعد السوق، وفى ظل حكومة أقل ومبادرات فردية أكثر، وانفتاح كل المحافظات على البحر مع حرية لجذب الاستثمارات والحصول على جزء مناسب من عائداتها لإعادة الاستثمار وتحسين الخدمات. ومن الجائز أيضا أن نحلم أكثر بأن يكون كل ما نقيمه، وهو جديد، لا يرجع إلى عهد الفراعنة، أن يكون كل ذلك صديقا للبيئة، نظيفا، يعرف كيف يأتى بمدخلاته، وماذا يفعل بمخرجاته، فما نفعله، كما يقال، يبدأ بصفحات بيضاء، بعضها فيه خطوط قليلة، وبعضها الآخر لم تمسسه يد من قبل. إنها مصر جديدة بالفعل.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية