فى مارس من هذا العام الجارى، جرّبت دولُ الخليج: السعودية والإمارات والبحرين ترويض الخطر الذى تُمثله قطر على أمنها القومى، فقرّرت سحب السّفراء، ثُمّ عادت فى نوفمبر الجارى، لتجريب أسلوب مُختلف: احتواء قطر فى داخل المنظومة الخليجية، فقرّرت إعادة السّفراء، وارتضت انعقاد القمة الخليجية المُقبلة فى الدوحة الشهر المقبل، بعد أن كانت قد هدّدت بنقلها إلى الرياض.
أولاً: قطرُ خطرٌ فوق الترويض بالتهديد وقطع العلاقات، وهى خطرٌ يصعُب احتواؤه بالتقريب والإدماج، قطرٌ محميةٌ من أمريكا، ولم ولن يستطيع أىُّ طرف إقليمى الاقتراب منها بسوء. قطر تعلمُ أنّها فى مأمن من العقاب، تماماً مثلما تعلمُ إسرائيلُ أنّها فى مأمن من العقاب، فما يملكُه العربُ- مُجتمعين- من قُدرة على تأديب قطر هو القُدرة نفسها التى يمتلكونها لتأديب إسرائيل، قُدرةٌ تقفُ عند حُدود الصفر الكبير. قطر- بوظيفتها الإقليمية الراهنة- هى اختراعٌ أمريكى، تُنجزُ من المُهمّات غير النّظيفة ما تتورّع أمريكا عن أدائه بيديها، فتُكلّف بها قطر الشقيقة التى تتطوّع لقبول التكليف بحماسة شديدة، كذلك فإن قطر تُنجز من المشروع الصهيونى ما تُفضلُ إسرائيلُ أن تُؤدّيه قطر بالوكالة عنها. قطر هى أداةٌ أمريكيةٌ لتفكيك الإقليم، ثم إعادة هندسته على نحو يضمنُ تأمين الوجود الإسرائيلى مُهيمناً على أقدار هذا الإقليم لألف عام.
ثانياً: من واجبنا- فى مصر- أن نتفهّم حسابات الأشقاء فى دول الخليج، بما فى ذلك عُمان التى تنأى بنفسها عبر سياسات فردية مُستقلة، وبما فى ذلك الكويت التى تضعُ قدماً هُنا وأخرى هُناك، ثم السعودية والإمارات والبحرين التى تختلفُ- بوضوح- مع السياسات القطرية الراهنة، والدولُ الثلاث تجرّب أساليب متعددة فى التعامل مع الخطر القطرى غير المحسوب، علماً بأنّ المشهد الخليجى قد ولج أبواب حقبة جديدة، أغلبُ فصولها مجهولٌ للجميع، وليس من المتوقّع أن تستقرّ العلاقاتُ الخليجيةُ- القطريةُ فى أجل قريب، فهذه المصالحة- التى جرت فى منتصف نوفمبر- ليست نهاية المطاف.
ثالثاً: قطر: وظيفةٌ إقليميةٌ، اكتشفتها واخترعتها أمريكا، وجاءت بها من هوامش الخريطة العربية، من نُقطة يابسة صغيرة هائمة فوق مياه الخليج لا تكادُ تراها العينُ ولكنها عائمةٌ فوق ثروات مهولة من احتياطيات الغاز لا يكاد يُصدّقُها العقلُ، لتكون رأس الحربة فى تفكيك كل الخرائط العربية، بدأت مُهمتها التاريخية فى شمال الجزيرة العربية، أى فى العراق والشام بدوله الثلاث سوريا ولبنان وفلسطين، وفى شمال أفريقيا ووادى النيل، أى فى مصر وتونس وليبيا والسودان. وفى هذين المحورين- شمال الجزيرة العربية وشمال أفريقيا- أثبتت قطر أنّها قادرةٌ على أداء مُهماتها غير النظيفة بكفاءة واقتدار، خرائط مُمزّقةٌ هُنا، وخرائط مُمزقةٌ هُناك، دولٌ تتفكك، أنظمةٌ تسقط، جماعاتٌ تتقاتل، شعوبٌ تائهةٌ فى دُروب الضياع.
رابعاً: قطر لا يعنيها- على الأمد الطويل- أن تكون فى داخل المنظومة الخليجية أو خارجها، قطر تعلم أنها اختارت- عن قصد- أن تكون خارج أى منظومة عربية، قطرُ تعلمُ أنها منذ سنوات عضوٌ فى منظومة إقليمية ودولية- مُختلفةٌ تماماً- تؤمنُ بأنها خيرٌ لها وأبقى وأجدى من أى منظومة عربية. قطر عندها يقين أن كل هذا العالم العربى القديم سوف يفنى، وسوف تبقى هى وإسرائيل فى وجود خرائط عربية جديدة سوف تفخرُ قطر بأنها من صُنّاعها الأساسيين، وقطرُ تعلمُ أن وظيفتها الوشيكة هى تفكيكُ خرائط أقرب النّاس إليها، وظيفتها القادمة هى خرائط الخليج نفسه. قطر تعلمُ أن الخليج ليس استثناء على الإطلاق، وأن الدور قادمٌ عليه ليس فى ذلك شكٌّ ولا ريبٌ. خرائطُ الخليج- دول مجلس التعاون- تحت حصار كامل من كل الجهات، خلف أسوار مُغلقة من كل الأركان، وتعلمُ دولُ الخليج أن أسرار تفكيكه وديعةٌ مُخفاةٌ فى حقيبة سوداء قد تسلّمتها الشقيقةُ قطر، وسوف تفتحهُا فى الوقت المُناسب، وهو وقتٌ- فى كل الاحتمالات- ليس ببعيد.
خامساً: الخطرُ يدُقُّ أبواب الأشقاء فى الخليج: إيرانُ فى الشرق، الحوثيون فى الجنوب، داعش فى الشمال. الفُرسُ طامعةٌ، والتُركُ جائعة، والعُربُ ضائعةٌ.
الحديثُ مُستأنفٌ.