فى خطابه الذى ألقاه فى القاهرة فى 4/6/2009، قال أوباما عبارتين تشيران إلى مسار مُعين. تقول العبارة الأولى: إن الأزهر وجامعة القاهرة يمثلان الاتساق بين التقاليد والتقدم. وتقول العبارة الثانية: إن الحضارة مَديِنة للإسلام لأن الإسلام هو الذى حمل فى أماكن مثل الأزهر نور العلم عبر قرون عدة، الأمر الذى مهد الطريق أمام النهضة الأوروبية وعصر التنوير.
والعبارتان متصلتان على الرغم من تباعدهما فى الخطاب، والاتصال هنا يتمثل فى أن الأزهر مؤسسة محافظة فى العبارة الأولى، ولكنه مؤسسة متحررة فى العبارة الثانية، وأظن أن ثمة تناقضًا بين المحافظة والتحرر، وأظن أيضًا أن أوباما على وعى بهذا التناقض، ولا أدل على ذلك من قوله بأن «الشراكة بين أمريكا والإسلام يجب أن تستند إلى حقيقة الإسلام وليس إلى ما هو غير إسلامى».
والسؤال إذن:
ما هو غير إسلامى فى مجال الإسلام؟
أظن أن «تفصيل» هاتين العبارتين لازم تمهيدًا للجواب، والتفصيل هنا خارج النص.
فى شأن العبارة الأولى التفصيل لازم لمعرفة مدى صحة القول بأن ثمة «اتساقًا فى جامعة الأزهر بين التقاليد والتقدم».
فى مفتتح الفصل الخامس من الجزء الأول من كتاب عنوانه «جمال رهيب» (عام 2000) يقول مؤلفه المفكر الإنجليزى «بيتر واطسون» إنه فى عام 1906 دعت جماعة مصرية بقيادة الأمير أحمد فؤاد «ملك مصر فيما بعد» إلى جمع تبرعات لتأسيس جامعة مصرية على غرار الجامعات الأوروبية من أجل تلبية احتياجات البلد، نجحت الدعوة وافتُتِحت الجامعة فى عام 1908 وبها أستاذان مصريان وثلاثة من الأوروبيين، وكان الدافع إلى هذا التأسيس مردودًا إلى فقدان الأزهر شهرته العالمية لأنه رفض أن يكون عصريًا.
والتناقض هنا يكمن فى علاقة العبارة الأولى بالثانية، فالعبارة الأولى تشير إلى أن العالم الإسلامى بقيادة الأزهر محافظ فى حين أن العبارة الثانية تعلن أن العالم الإسلامى كان هو السبب فى بزوغ عصر النهضة وعصر التنوير فى أوروبا.
والسؤال إذن:
كيف حدث ذلك البزوغ؟
فى عهد فردريك الثانى هو هنشتاين (1197- 1250) ملك نابولى وصقلية دار صراع بين الطبقة الإقطاعية المدعمة بالسلطة الدينية وبين طبقة التجار الصاعدة، وكان فردريك منحازًا إلى هذه الطبقة الصاعدة، ونُصح الملك بإصدار مرسوم بترجمة مؤلفات ابن رشد لأنها تستجيب لمتطلبات هذه الطبقة الصاعدة فاستجاب للنصيحة وتُرجمت تلك المؤلفات إلى العبرية واللاتينية، وبعد ذلك نشأ تيار أُطلق عليه اسم «الرشدية اللاتينية» بقيادة دى برابان،
ودخل هذا التيار فى صراع مع السلطة الدينية فاتهِم بالكفر والإلحاد وقُتل دى برابان بطعنة خنجر من سكرتيره الخاص، ومع ذلك أحدث هذا التيار تغييرًا جذريًا فى الذهنية الأوروبية؛ إذ كان من الأسباب الأساسية فى نشأة عصر النهضة وعصر التنوير، وتأسيسًا على ذلك يمكن القول بأن فلسفة ابن رشد هى من جذور التنوير الأوروبى.
والسؤال بعد ذلك :
ماذا حدث لابن رشد فى العالم الإسلامى؟
كُفِرّ وأُحرِقت مؤلفاته ونُفى إلى أليسانة وأصبح هامشيًا فى تاريخ الأمة الإسلامية، ثم جاء ابن تيمية بعد ابن رشد فى القرن الثالث عشر، والتزم حرفية النص الدينى، ومن ثم التزام إبطال إعمال العقل فى النص الدينى، وبالتالى أنكر المنطق والفلسفة بدعوى أن المنطق شر البلاء المستطير، إذ هو مدخل الفلسفة والفلسفة هى أخطر أعداء العقيدة الإسلامية.
وفى القرن الثامن عشر ظهرت الوهابية فى شبه الجزيرة العربية مستندة إلى أفكار ابن تيمية، وفى عام 1928 نشأت حركة الإخوان المسلمين فى مصر بقيادة حسن البنا الذى التزم بدوره بأفكار ابن تيمية وأشاعها فى العالم الإسلامى برمته، وهى الآن فى طريقها إلى أوروبا وأمريكا، وفى عام 1990 دعيت للمشاركة فى مؤتمر دولى انعقد فى الخامس من شهر أغسطس ببروكسل ببلجيكا،
وفى التاسع من ذلك الشهر عرضت على نخبة من المشاركين فى ذلك المؤتمر اقتراحًا كان يدور فى ذهنى فى ضوء التوتر الحاد بين العالم الإسلامى والغرب مفاده أن فلسفة ابن رشد تصلح أن تكون جسرًا بين هذين الطرفين لأن فلسفته من جذور التنوير الأوروبى، ولكنها لم تكن أبدًا من جذور التنوير الإسلامى لأنه ليس ثمة تنوير فى العالم الإسلامى وإنما أفراد حاولوا إشاعة التنوير فأجهضوا.
خلاصة القول: إن على الرئيس أوباما إصدار مرسوم ببناء «جسر ابن رشد» إذا أراد سلامًا بين العالم الإسلامى وأمريكا، وأظن أنه من غير هذا الجسر تكون الحضارة فى خطر، وهى بالفعل كذلك.