سؤال
هل تساهم التيمات التي يحرص مبرمجو المهرجانات الكبرى على انتقائها عاما بعد عام في تحديد مستوى الافلام المشاركة في المسابقات والبرامج المختلفة؟ وهل هناك بالأساس ما يعرف بالتيمة المحددة التي يتم على اساسها اختيار أفلام المهرجانات دورة بعد دورة ام ان هذا من ادعاءات النقاد الذين يبحثون دوما عن زاوية للقراءة أو تحليل الافلام المشاركة في الدورات المهرجانية على كثرتها!
في الحقيقة وبحكم الخبرة فإن بعض المهرجانات يعلن في بداية الدورة عن وجود تيمة ما تدور حولها الأفلام التي تم اختيارها والبعض الاخر يترك هذا لخبرات النقاد والصحفيين ومدى عمق قراءتهم أو سطحيتها على حد سواء لأفلام المهرجان وفعالياته.
هذا العام يمكن الجزم وبقوة أن الدورة الخامسة والخمسين لمهرجان سالونيك (31 أكتوبر-1 نوفمبر) جاءت أغلب برامجها متمحورة حول تيمة (العائلة المقدسة) ولا نقصد بالمقدسة عائلة المسيح ولكن فكرة أن (العائلة) في صورتها الاشمل كيان مقدس يجب الحفاظ عليه أو ان العائلة هي منبع كل الخيرات الحياتية ومكمن كل الشرور النفسية.
رصد
ما نلمحه بقوة في مجموعة الأفلام الاربعة عشر التي شاركت في المسابقة الدولية من دول المكسيك واليونان واسرائيل والمانيا واستونيا وامريكا وأوكرانيا والنوريج والسويد وروسيا وفرنسا واسبانيا وأمريكا وحتى لاتفيا هو ان العائلة هي أطراف الصراع ومحوره سواء فيما بينها أو ضد القدر والآخرين ولكن اختيار هذه التيمة هو تحد كبير لا شك لأن اغلب الأفلام التي تدور حول قيم العلاقات الأسرية والخطوط الإنسانية والنفسية والمادية بين افرادها سواء على المستوى الاجتماعي أو الفلسفي أو السياسي تحتاج إلى معالجات بصرية ودرامية شديدة القوة والتماسك من اجل الخروج من أسر الميلودراما الفاقعة والصعبانيات التي تولدها دراما الأسر والغرف المنزلية.
ولما كان الأطفال هم عنصر اساسي من عناصر أساسي من عناصر الدرامات العائلية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر فان العديد من أفلام المسابقة بل وبرنامج أفق مفتوحة الذي يعد ثاني أكبر البرامج التي ينظمها المهرجان- اختيار رسمي خارج المسابقة-يلعب وجود الأطفال كعنصر درامي وبصري دورا مهما في تأصيل افكار الافلام وبيان دسامة المشاعر والانفعالات التي يتحيز لها صانع الفيلم محاولا استقطاب المتفرج إلى انحياز مماثل.
في الفيلم السويدي(حديقة بلو فلاي/BLOWFLAY PARK) للمخرج جنز اوستبرج والحائز على جائزة افضل ممثل يتمحور الصراع العضوي الغير مباشر حول طفل صغير يشك ابوه انه ليس ابنه وانه ابن صديقه في مأساة اقرب لمأساة عطيل ولكن بدلا من أن يتتبع الفيلم عذاب الأب/عطيل يقلب السيناريو تتابع المأساة ويجعل الأب هو الذي يرحل مقتولا أو منتحرا بسبب السر المموه عن حقيقة نسب ابنه بينما نتابع المعاناة التي تتخلق داخل نفسية الصديق المعادل لياجو الذي يطارد زوجة صديقه ويحاول التقرب للابن عله يجعلها تعترف أن الابن ابنه ولكنها ترفض الاعتراف مما يؤثر على حالته النفسية ويتحول تدريجيا من شاب مسالم وطيب إلى رجل متوحش يلقى مصيرا مأساويا.
وباستخدام نفس تقنية الحضور العضوي للأطفال قدم مواطنه روبن اوستولوند في فيلم(قوة قاهرة/ FORCE MAJEURE) حكاية كوميدية سوداء بطلها زوجان شابان وطفلاهما حيث ذهبا إلى قضاء الشتاء في احد جبال الشمال الثلجية وهناك يتعرضان لانهيار ثلجي زائف ينتج عنه هرب الاب تاركا الزوجة والطفلين مما يتسبب في ازمة نفسية وأسرية رهيبة داخل الاسرة الصغيرة حين تبدأ المواجهة بين الزوجة الأم وبين الأب حول ايهما اكثر أهمية بالنسبة له حياته ام اسرته وتنعكس هذه الازمة على روح الطفلين اللذين يبدآن في اكتشاف عالم الكبار الغامض المليء بالافكار المرعبة والأزمات الجدلية التي تصطك بوعيهم الصغير ومفاهيمهم المحدودة حول الاهل والعائلة.
ولا يمكن اغفال افلام مثل «حزن ابدي/PERPETUAL SADNESS» المكسيكي الحائزة على الجائزة الأولى والذي يمثل فيه المولود الصغير الذي جاء نتيجة حمل سفاح بين امه وصاحب مزرعة ملح في القرية محور الأزمة العائلية التي تتعرض لها الزوجة الأم عقب عودة زوجها من العمل في الخارج ومعرفته بالأمر وايحائه لها أن تتخلص من الطفل كي تحافظ على زوجها مما يسبب لها حزنا ابديا لا يمكن التخلص منه في مقابل أن تظل عائلتها متماسكة وأطفالها الآخرون في أحضان ابيهم- وبالمناسبة الفيلم معروض ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته السادسة والثلاثين في قسم مهرجان المهرجانات-
وكذلك فيلم«الدرس/ THE LESSON» الحائز على الجائزة البرونزية الذي تمثل فيه ابنة المدرسة التي توشك أن تفقد منزل اسرتها عنصر ضغط شعوري ونفسي وانساني عظيم على روح امها التي تتحول من مربية فاضلة إلى سارقة لاحد البنوك في سيناريو متقن حائز ايضا على جائزة افضل سيناريو في المسابقة الدولية نظرا لكثافته وعمق تأثيره الوجداني وافقه الواسع الذي يجعل من القصة حكاية عامة يمكن أن تحدث في مجتمعات لا حصر لها.
الشعب يريد
احتفل مهرجان سالونيك هذا العام بمرور 100 سنة على إطلاق السينما اليونانية عام 1914 عقب تحرر اليونان من الاحتلال العثماني ابان الحرب العالمية الأولى وقد اطلق المهرجان نظاما للاحتفال بدأ قبل فعاليات الدورة بحوالي شهرين وذلك عبر استفتاء جماهيري مفتوح على الموقع الإلكتروني للمهرجان طلبت فيه الإدارة من الجمهور اختيار مجموعة الافلام التي يريد أن يشاهدها في العروض الأستعادية التي سوف يضمها المهرجان في برنامج 100 عام من السينما اليونانية وذلك من بين 200 فيلم ضمهما الاستفتاء هي خلاصة ما أنتجته السينما اليونانية عبر 100 عام ويمثلون كافة اشكال الانتاج والاخراج والكتابة والأساليب التي ظهرت خلال قرن من السينما في اليونان.
وقد اختار الجمهور بالفعل حوالي 20 فيلما من بين المئتي فيلم لكي يعاد عرضها ضمن البرنامج بالاضافة إلى اختيار ادارة المهرجان تسعة افلام من احدث انتاجات السينما اليونانية وفي الحقيقة فان فكرة الاستفتاء الشعبي على اختيار الافلام التي تعرض في تكريم السينما المحلية هي فكرة جيدة وتعكس مدى التفاعل ما بين الجمهور وبين سينماه التي تربى عليها والتي شكلت جزءا كبيرا من وجدانه ومشاعره وثقافته كما أن اهتمام الجمهور يعكس بالنسبة لصناعة السينما الحالية ابرز التوجهات الفنية التي يريد لسينماه أن تحافظ عليها أو تطورها خاصة أن الافلام المختارة في قائمة العشرين من قبل الجمهور كلها افلام ذات حس وجودة سينمائية راقية ومميزة وليس مجموعة من الأفلام التجارية التي يتسم بها انتاج السينما اليونانية الحديثة التي تعاني من نفس مشاكل السينما المصرية تقريبا حيث ان صناعة فيلم فني بمقايسس سينمائية راقية هي معادلة صعبة في ظل اغراق السوق بالعديد من الافلام التي تتخذ من الجنس والمطاردات والكوميديا الهزلية سورا عاليا أمام أي محاولات جادة لتغيير ذوق الغالبية من الجمهور خاصة الشباب.
غياب عربي
باستثناء الفيلم الموريتاني «تمبكتو» للمخرج عبدالرحمن سيساكو الذي عرض ضمن برنامج العروض الخاصة ضمن افلام من اليابان وبلجيكا وروسيا والمانيا والدنمارك ثمة غياب واضح للمشاركة العربية والمصرية على حد سواء في فعاليات الدورة الخامسة والخمسين وهو امر يدعو للتساؤل مع وجود عدد لا بأس به من الافلام العربية ضمن انتاجات سينما 2014 و2013 مستواها لا يقل عن مستوى الأفلام المشاركة في العديد من اقسام المهرجان وعلى راسها آفاق مفتوحة والمسابقة الدولية وقد سبق واشرنا إلى ان المشاركة المصرية والعربية لم تكن تنقطع عن المهرجان خلال السنوات الماضية عبر افلام مصرية وجزائرية وتونسية ومغربية ولا نتصور أن هناك تعنتا من ادارة المهرجان نظرا لما نراه من تواجد لدول كثيرة بأفلام من الأعمال الأولى والثانية وهي التخصص الرئيسي للمهرجان ذات مستوى متواضع واحيانا غير جيد في مقابل ووجود تجارب مثل فيلا 69 على سبيل المثال الذي كنا ننتظر مشاركته في مسابقة الدورة الأخيرة ليكمل الحضور المصري والعربي الذي بدأ مع تواجد تيار السينما البديلة أو المستقلة أو الأخرى ايا كانت التسمية عبر افلام المخرج أحمد عبدالله الثلاث- هليوبوليس وميكروفون وفرش وغطا- وفيلم هالة لطفي «الخروج للنهار»الذي حصل على جائزة أحسن اسهام فني العام الماضي.
كما يمتد الاستغراب إلى غياب افلام مثل الجزائري «الوهراني» ثاني أفلام المخرج الياس سالم وهو أحد اميز التجارب الجزائرية الشابة في السنوات الأخيرة وقد عرض ضمن فعاليات مهرجان ابو ظبي الأخير.
الخلاصة أن مخرجينا العرب والمصريين يحتاجون إلى اعادة ترتيب اولوياتهم بالنسبة للمهرجانات الدولية خاصة مع وجود مهرجان مثل سالونيك الذي يمكن أن تجيبك دورة واحدة من دوراته على أحد أهم الأسئلة التي تطرح في الفضاء السينمائي العالمي وهو: كيف يفكر شباب السينما؟ وما هي الهموم والتوجهات والمشاعر والتفاصيل التي تشغلهم وكيف يعبرون عنها؟ وكيف يتعاملون مع وسيط يتطور تقنيا كل يوم ويراكم مئات التجارب في كل صباح يشرق على ارض السينما!!
يكفي ان نضرب مثالا بالفيلم الأستوني «في الريح المتقابلة/IN THE CROSSWIND» للمخرج مارتي هيلدي والحائز على جائزة احسن اسهام فني وهو فيلم تجريبي شديد التماسك على المستوى البصري والدرامي ويحكي قصة واحدة من الأسر التي تفرقت ابان التهجير السوفيتي للأستونيين خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها فيما يعرف بالهولوكست السوفيتي حيث استغرق المخرج ثلاث سنوات ونصف لأعداد الفيلم وتصويره فبدأه وهو في الرابعة والعشرين من العمر وانتهى منه وهو على ابواب الثامنة والعشرين ولكنه استطاع أن يقدم وثيقة حية لواحد من حوادث التاريخ المسكوت عنه في اوروبا الشرقية حتى إن أحد مشاهد الفيلم استغرق تصويرها ستة أشهر كاملة وكانت تحتوي على 150 كومبارس رغم أن الفيلم لا يحتوي على حركة ممثلين بل يعتمد على فكرة تثبيت الزمن عبر تثبيت الممثلين في شكل اقرب للتكوينات الفوتغرافية والأكتفاء بحركة الكاميرا فيما بينهم وهو احد الأفلام التي تتجلى فيها تيمة العائلة المقدسة بشكل رائع حيث يركز المخرج على اسرة من رجل وامرأة وطفلتهما الصغيرة حين يفترقان فيعتقل الرجل في معسكرات التعذيب السوفيتية وتذهب المرأة للعمل في سيبيريا حيث تموت ابنتها من المرض وتظل هي تحافظ على التواصل مع زوجها بالكتابة له دون أن تدري اين هو إلى أن تعود بعد عشر سنوات عقب موت ستالين وانتهاء حقبته الدموية لتكتشف رسائله التي كان يرسلها لها إلى سيبيريا وكشف أنه لقى مصرعه ضمن من اعدموا في معسكرات ستالين.
قصة بسيطة لكنها مفعمة بالحكرة الداخلية مع غياب كامل للحوار والاكتفاء بشريط صوت عنصره الأساسي هو مونولوج مقروء من الرسائل المتبادلة بين الزوجين والتي لم تكن تصل لأيدي كل منهم ولكنهم استمروا في كتابتها حتى الموت.