فى سبتمبر 1957 وزعت الحكومة الإثيوبية على البعثات الدبلوماسية فى القاهرة مذكرة، قالت فيها إنها تؤكد وتحتفظ الآن وفى المستقبل بحقها فى اتخاذ كل الإجراءات المتعلقة بمواردها المائية، وعلى الأخص الموارد التى تزود النيل بكامل مياهه تقريبا. وبعد أن أشارت إلى المباحثات الجارية دون أن تستشار فيها (المفاوضات الخاصة باتفاقية 1959 التى تم توقيعها بين مصر والسودان لاحقا)، ذهبت الحكومة الإثيوبية إلى القول بأن كمية المياه المتاحة للآخرين يجب أن تتوقف على مدى حاجة إثيوبيا وهى المالك الأصلى للمياه لمقابلة احتياجات سكانها واقتصادها، ثم خلصت إلى أنه بعد استيفاء احتياجاتها الوطنية، فإن إثيوبيا ستساهم من خلال مواردها الطبيعية فى رفاه سكان جاراتها الشقيقة على ضفاف النيل.
ما ورد أعلاه ما زال قائما ومستمرا حتى الآن، ومازال يمثل جوهر الموقف الإثيوبى الذى يقف خلف الإصرار على السعة الحالية لسد النهضة، واعتبار ذلك أمرا خاصا بإثيوبيا ومتعلقا بسيادتها، واستخدام المراوغة والخداع بمختلف السبل منذ اليوم الأول للإعلان عن السد حتى هذه اللحظة، من أجل تحقيق وتكريس الهدف الإثيوبى المتعلق بالسيادة المطلقة على مياه النيل واستغلالها بغض النظر عن الضرر الذى سوف يلحق بالآخرين، بل لا نبالغ فى القول بأن هذا الضرر الناتج عن بناء السد بهذه السعة هو أمر مقصود لتحقيق الأهداف الحقيقية من السد، وهى استخدام المياه والطاقة كأداة، وكسلاح، للوصول إلى أهداف سياسية واستراتيجية، والتى هى بالنسبة لإثيوبيا ولمن يدعمونها تفوق فى أهميتها ما يتم ترويجه باستمرار عن المكاسب التنموية وتوليد الطاقة التى يجرى الحديث عنها كغطاء للأهداف الحقيقية.
وبالتالى، وبعد أن تأكد رسميا أن نتائج المفاوضات الفنية لاستكمال دراسات سد النهضة، غير ملزمة، وأنها ستكون فقط محل احترام. فإنه علينا أن نلاحظ أن إثيوبيا تؤكد مسبقا وبكل الطرق داخل المفاوضات وخارجها، أن هذا الاحترام المشار إليه سيكون فى ضوء ما تقول إنه الاستخدام المنصف والعادل، وألا يكون الضرر ملحوظا. وبطبيعة الحال فإن هذا سيكون خاضعا لتقدير الطرف الإثيوبى الذى يكرر طوال الوقت مقولاته المغلوطة بأن عهد هيمنة دولة واحدة على مجرى النهر قد انتهى. وسوف يتم التمسك بشدة بأن هذا الضرر لا يمثل شيئا يذكر. فإثيوبيا لن تضحى بتعريض استراتيجيتها بعد أن اقتربت من النجاح لأى مخاطر. ولن تجدى أى وسيلة لإقناعها بتغيير هذا الرأى عبر الحوار أو التفاوض.
هذا الموقف يؤسس له الطرف الإثيوبى، باستمرار، عبر القول بأن سعة السد وسياسته التشغيلية هما أمران يخصان سيادة الدولة (الإثيوبية)، كما أشار إلى ذلك الوزير السودانى معتز موسى فى حذلقة لغوية تقر الموقف القانونى الإثيوبى وتعززه، ليس تجاه مصر فقط، وإنما أيضا تجاه السودان نفسه، وذلك فى معرض دفاعه عن عدم إلزامية نتائج الدراسات المزمع استكمالها، رغم أن مثل هذا القول مرفوض أصلا بشكل بديهى، فضلا عن أنه مخالف لأى قاعدة أو معيار دولى فى استغلال مياه الأنهار، وإلا لما كانت إثيوبيا قد قبلت الجلوس أصلا فى هذه الاجتماعات.
إن الموقف المصرى الحالى لا غبار عليه لأنه يثبت للعالم أن مصر ساعية للتعاون وحريصة عليه، ولكن علينا أن ندرك أن هذه هى أقصى حدود أو ثمار المسار الحالى، ومن ثم فإنه ينبغى أن يكون حلقة أو مرحلة فى استراتيجية أوسع لمواجهة أخطار هذا السد وتداعياته الاستراتيجية ليس فقط على المياه والتنمية، وإنما على التوازنات الإقليمية فى حوض النيل..
أما إذا كانت الاستراتيجية المصرية تتصور أن المسار الحالى سوف يحمل فى نهايته حلا ما، فإنها للأسف (الشديد) ستقع فى فخ تكريس واقع جديد فى حوض النيل، والأهم من ذلك أن هذا الواقع الجديد سيكون بموافقة مصر وإقرارها. وهذا أمر ستكون له نتائج كارثية تفوق آثار هزيمة 1967 التى مازالت مصر تدفع فواتيرها، ومعها كل المنطقة العربية. ويبقى السؤال: هل هناك حلول أمام مصر لمقاومة السد أو آثاره إذا لم تستطع إيقاف استكمال البناء؟.. نقول بكل وضوح وثبات نعم توجد حلول، ولهذا حديث آخر.