الأولويةُ الأولى حتّى العاشرةُ هى الطعام. يعنى الاقتصاد. يعنى الاستثمارات. يعنى تدفق رأس المال العربى والأجنبى.
المُعضلةُ الكُبرى هى أن الاستثمارات الموجودة- فى مصر بالفعل- تهرب أو تفكر فى الهروب، لأن مشاكلها لا تجد من يقدم لها الحلول، ولكن تجد من يزيد من تعقيدها، كأنه أقسم- بكل يمين- ألّا يهدأ له بال حتى يطفش آخر مستثمر من هذا البلد.
مثال: مُستثمر كبير، حجم استثماراته المُعرقلة حوالى 12 مليار جنيه، مُتردد فى الدفع بأى استثمارات جديدة، وهذا طبيعى طالما أن استثماراته القديمة تحولت إلى مصدر صداع مُزمن. علم رئيس الجمهورية بواقع الحال. طلب من رئيس الوزراء تيسير مشكلات هذا المستثمر. رئيس الوزراء جمع الوزراء والمحافظين الذين تقع استثمارات هذا الرجل فى نطاق وزاراتهم ومحافظاتهم وعقدوا اجتماعاً مع المستثمر. ساعة وراء ساعة وراء ساعة، ثلاث ساعات ونصف، والرجل جالس هو ومساعدوه مع هذا العدد الكبير من المسؤولين، وطبعاً كل مسؤول جاء معه بفريق من قادة وزارته أو محافظته أو جهازه. رئيس الوزراء زحزح المسؤولية على الوزراء، الوزراء زحزحوها على وكلاء الوزارات، وكلاء الوزارات زحزحوها على مُديرى العموم، مديرو العموم زحزحوها على مديرى الشؤون القانونية، مديرو الشؤون القانونية فرشوا ترسانة من القوانين، كانت الطريق السريع الذى قاد رؤساء وزراء ووزراء ومسؤولين كباراً إلى غياهب السجون، فقرة من القانون تدخلك السجن، وفقرة أخرى تُخرجك منه بعد أن تكون قد انتهيت من الفضيحة والتشهير والعذاب الكبير.
كُنتُ أستغرب: لماذا رئيس وزراء حكومة المقاتلين وحكومة السابعة صباحاً «طافش وهربان يتنطط 24 ساعة فى الشوارع بدون عمل وبدون إنجاز»..؟!.
عرفت السبب، رئيس الوزراء والوزراء، شغالين هزّ أكتاف وحركة وتمارين فى المكان فقط، كلهم شادّين فرامل، ويضحكون على الشعب، ويقولون نحن نتحرك إلى الأمام، ليس منهم من يتخذ قراراً، ليس منهم من يتحمل مسؤولية، ليس منهم من يضع توقيعه على ورقة ذات قيمة، ليس منهم رجلٌ إلا وهو يحسب ألف حساب ليوم الحساب، ليوم يدخل فيه السجن دون ذنب حقيقى جناه، إلا أنه اجتهد، ثم جاء جهاز رقابى أو نيابة عامة- بعد شكوى أو بلاغ- وقالت هذا إهدارٌ للمال العام..!
والأغرب: أنى علمتُ من مصادر موثوقة أن هذا الجمود الوظيفى ليس فى مجلس الوزراء فقط، بل فى كل المستويات الوظيفية المطلوب منها اتخاذ قرار، أو توقيع على ورقة ذات أهمية مالية، وتترتب عليها مسؤوليات قانونية، من الوارد أن تتحول إلى مسؤوليات جنائية. يحدث هذا فى المستشفيات، فى الإدارات التعليمية، فى الجامعات، إلى آخره.
الوضع بشأن الاستثمارات الراهنة الموجودة بالفعل لا يمكن السكوت عليه. لسبب بسيط جدّاً، الكثير من هذه الاستثمارات يفكر فعلياً فى الهروب من مصر، إلى بيئات استثمارية مُريحة للمستثمرين، وقد ذكر لى أحد المصادر بعض الأسماء الكبيرة التى يمثل خروجها من مصر خسارة كبيرة، لا يسهل تعويضها.
هذه هى أسوأ دعاية للفرص الاستثمارية فى مصر. مجتمعات الاستثمار فى العالم مفتوحة على بعضها، وتتبادل وتتداول معلومات ووقائع سلبية عن واقع الاستثمار فى مصر. وليس الصمت عنها فى الإعلام المصرى معناه أن العالم لا يعلم بها.
نحن نستعد لعقد المؤتمر الاقتصادى الكبير فى فبراير المُقبل، وعندنا أمل أن نعرض فرص الاستثمار فى بلدنا على العالم، وليس من المعقول أن نتأخر فى علاج هذه القضايا العالقة والمؤتمر على الأبواب.
أخشى إذا استمرّت هذه الأوضاع أن يستمر هروب الاستثمار، وأن يكون المؤتمر مجرد مناسبة للخطابة والعلاقات العامة وكاميرات التليفزيون، ثم ينفضُ المولد بلا حُمُّص..!