x

«المصري اليوم» تخترق الحظر داخل مدرعة.. العريش مدينة «أشباح»

الجمعة 31-10-2014 23:33 | كتب: هيثم محجوب, محمد محمود رضوان |
كمائن  الجيش و الشرطة في العريش كمائن الجيش و الشرطة في العريش تصوير : هيثم محجوب

تشير عقارب الساعة إلى الرابعة وأربعين دقيقة، تخلو الطرق الرئيسية بمدينة العريش من المارة تماماً، إلا عدداً محدوداً جداً من سيارات الأجرة الخاوية من «الزبائن» التى تقطع كيلومترات على الطريق بسرعة جنونية، مخترقة الطرق الخاوية التى تغادرها الشمس، معلنة اقتراب نهاية الساعات الـ10 المأهولة بالحياة. لتبدأ 14 ساعة من الليل القاتم تحت سقف الحظر.

على جانب أحد الطرق الرئيسية تستقر سيارة ملاكى زرقاء فى مشهد غير مألوف، مقارنة بالسيارات الهاربة من قبضة الحظر، يرقد رجل ثلاثينى إلى جانب أحد إطاراتها دون حراك لثوانٍ، ثم يتحرك حاملاً بيده أحد الإطارين الخلفيين، ويشير لجميع المارة وهو يلهث، طالباً «توصيله» لأقرب «محل إصلاح إطارات» لكن دون أن يستجيب له أحد.

عقارب الساعة تشير إلى الرابعة وخمس وخمسين دقيقة، يخترق معها صوت غاضب صمت المشهد، موجهاً حديثه لـ«أ. د» من أعلى مبنى «نادى ضباط الشرطة بالعريش» وهو يقول: «شهل شوية باقى خمس دقائق على الحظر»، ومع هذه الصرخة، يفتح الرجل الحقيبة الخلفية لسيارته، يضع الإطار الممزق، وفى أقل من 15 ثانية، يعود مرة أخرى للطريق الرئيسى، بعد أن فقد الأمل فى العودة بسيارته، ويشير إلى السيارات التى تزداد سرعتها أكثر فأكثر مع مرور الوقت.

يزأر صوت «فرامل» سيارة أجرة استقلها الرجل قاصداً أى مكان يبيت به، تاركاً سيارته، فيما تغرق الشمس تماماً، ويكسو شمال سيناء بأكملها سكون تام إلا من صوت زئير مصفحة تابعة لقوات التأمين، وطلقات تحذيرية لأى جسم متحرك فى محافظة أصبحت تنام «من المغرب».

استقر المقدم «أ.غ» مشرف الخدمة الأمنية بمديرية أمن شمال سيناء بالمقعد الأمامى المجاور لسائق المدرعة التى تتقدم «القول الأمنى» أو كما يطلق عليها «دورية التأمين»، بصحبته مجند «ى. م» السائق، وأمين شرطة «م.ع». يلتقط المقدم جهاز اللاسلكى الموضوع أمامه، ويعطى أمراً للسائق ليبدأ التحرك لكمين الميدان الواقع غرب محافظة العريش، بعد أن جاء رد بإشارة لاسلكية بالموافقة على التحرك، حيث أجابه العميد «هشام درويش» مدير إدارة البحث الجنائى بشمال سيناء أثناء مروره على نقاط التأمين لتفقدها، قائلاً: «تمام، ابدأ التحرك».

«أنا مش خايف، ومتوكل على الله، لكن الحقيقة الشىء الوحيد اللى بيتغير هو نفسيتنا لما نفقد شخص عزيز علينا، كان بيؤدى واجبه، ودايماً فى اللحظة دى بافتكر ولادى وأسرتى اللى مايعرفوش إنى فى شمال سيناء»، بهذه الكلمات بدأ المقدم «أ. غ» حكايته، بعد أن أنهى اليوم شهره الثالث فى شمال سيناء، ويستطرد: «يقيننا بالله يدعمنا، وهذه عقيدتنا، وكلنا سنموت، ولكن ما يؤثر فينا حقاً هو ردود أفعال المواطنين بعيداً عن مناطق الخطر وهى فى الحقيقة سلبية، وكأنهم لا يعلمون ماذا نقدم، وكيف نصبح معرضين للموت، نراه يومياً، فقط لأن واجبنا يقتضى ذلك».

يشير مشرف الخدمة الأمنية إلى 4 منافذ فولاذية صغيرة ذات غطاء مستدير بالزجاج، صنعت منه نوافذ المصفحة وزجاجها الأمامى، ويقول: «هذه منافذ للاشتباك فى حالة التعامل مع أى مشتبه به أو عمل إرهابى يواجه قوة التأمين، والزجاج بالطبع مضاد للرصاص، سواء رصاص السلاح الشخصى الطبنجة أو السلاح الآلى، والفتحات الأربع تسمح لأفراد القوة التى تستقل المصفحة بإطلاق الرصاص فى 3 اتجاهات، الأمام واليمين واليسار، وهى مصنوعة من فولاذ مضاد للرصاص مطابق لذلك الذى يصنع منه الهيكل الخارجى للمدرعة، وهناك ذراع تحكم دائرية بكل منها، يسمح بفتحها من الداخل فقط بعد أن تتم إدارتها لليسار، بما يسمح بمرور فوهة السلاح للخارج وإطلاق الرصاص بتحكم وديناميكية».

يضيف: «فى هذه الحالة لا يفضل التعامل باستخدام السلاح الشخصى إذا قدر الله وحدث اشتباك مع القوة، حيث إن فوهة السلاح الشخصى قصيرة ويتسبب رد فعل إطلاق النيران منها فى عودة السلاح للداخل مرة أخرى وعدم التحكم فى وجهة إطلاق النيران، على عكس السلاح الآلى الذى تسمح فوهته الأطول بإطلاق النيران بتحكم ودون رد فعل مماثل للسلاح الشخصى».

وحول ما إذا كان تسليح قوات الشرطة فى سيناء رادعاً لأى محاولات للهجوم أو الاشتباك مع أى عناصر، يشير المقدم إلى أن فترة التسليح لم تكن كافية للردع لمدد طويلة، لكن مع رفع كفاءة التسليح بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو أصبح رادعاً، مضيفاً أن تنفيذ مأموريات قبض أو اشتباك مع أى عناصر إجرامية يستلزم اشتراك قوة من الأمن المركزى، حيث تحظى تلك القوات بأعلى قدر من كفاءة التسليح وتنوعه، على عكس قوات التأمين والخدمات التى تحظى بدرجة تسليح تتوازى مع المهام المنوط بها تنفيذها.

عامان ونصف العام قضاها الأمين «م.ع» بشمال سيناء، وكانت مهمة الرجل القادم من مدينة طنطا فى ليلة الحظر تلك أن يستقر بالمقعد الخلفى للمصفحة، ممسكاً بسلاحه الآلى عبر فتحة الاشتباك اليمنى فى النصف الخلفى.

طوال الطريق من وإلى كمين الميدان، ظل أمين الشرطة يحرك رأسه يميناً ويساراً دون توقف، لم يتوقف عن مراقبة جانبى الطريق الصحراوى أثناء حديثه، قائلاً: «اتعودنا على الوضع الخطر فى شمال سيناء، وشفنا الموت أكتر من مرة، ودايماً بفكر إنى كان ممكن أبقى مكان أى شهيد من قوات الأمن».

30 يوماً تتبقى للأمين «م.ع» على الزواج، يتلقى فى كل ليلة مكالمة هاتفية من خطيبته، كانت أكثرها حزناً تلك المكالمة التى تلت الحادث الإرهابى الأخير.. التى وصفها قائلاً «خطيبتى عيطت فى التليفون، وطلبت منى آخد بالى من نفسى، ودعت ربنا يعدى الشهر على خير، والحقيقة المكتوب نافذ، وبيصبرنا دايماً على الموت اللى ممكن نقابله فى أى لحظة انتظار الشهادة، لكن أكتر حاجة بتوجع قلبنا التفكير فى أولاد وأسر الشهداء اللى سقطوا، ويتذكر صديقه الأمين محمد عبدالحميد، القادم من كفر الشيخ، الذى استشهد فى شمال سيناء تاركاً خلفه زوجة وطفلا»، فيما أكد أن رفقة زملائه والروح الإيجابية التى تغمرهم هى الأمر الوحيد الذى يهون على الجميع خطر العمل فى شمال سيناء بين العريش ورفح.

يبطئ المجند «ى. م» من سرعة القيادة، يخفض أضواء السيارة، وينتظر تلقى الإِشارة بالتقدم من قائده الذى يجاوره المقعد، وأمامه يبدأ التحرك أحد جنود القوات المسلحة المتواجدين بالأكمنة المنتشرة على طول الطريق، ترفع الصدادات والموانع الحديدية من على الطريق، ويلقى المجند السائق ورفيقاه التحية على المتواجدين بالكمين، ثم يمر إلى مقصده بكمين الميدان.

7 سنوات كاملة قضاها المجند «ى. م» بشمال سيناء، قضى العام والنصف الأخير منها فى الخدمة، بينما قضى سابقتها بالمحافظة بهدف العمل.

ويقول المجند «أنا مش متزوج، لكن ربنا يكرمنى بعد نهاية خدمتى، وأكثر ما يؤلمنى هم زملائى من الجنود الذين قدموا حياتهم للدفاع عن الأمن فى سيناء ومواجهة الإرهاب»، ويضيف: «كل يوم بنشوف الموت، وماحدش يعرف إيه مكتوبله».

داخل كمين الميدان، على حدود مدينة العريش، التى حولها الحظر لمدينة خالية حتى من الأشباح، اخترق غياب العنصر البشرى انتشار عدد من الأفراد، هم ضباط وأفراد تأمين الكمين من الشرطة والقوات المسلحة يقفون خلف مدخل الكمين المكون من عدد كبير من المصدات الحديدية والعوائق التى تنتشر على مسافة تقارب 15 متراً يستقر فى مقدمتها جنديان يرتديان «شدة كاملة» و«واقياً من الرصاص».

وبعد المرور من الحواجز، يستقر بمركز الكمين ضابط بالبحث الجنائى، وضابط آخر بالأمن المركزى، وضابط بالقوات المسلحة، وعدد كبير من الأفراد ينتشرون بطول وعرض الكمين ودشماته وتحصيناته، ويرتدى كل منهم سترة واقية.

تمركز عدد من الأفراد على جانبى الطريق، فيما كان الكمين مصدر الضوء الوحيد فى تلك الصحراء الواسعة المظلمة، وفى مركز الكمين استقر الضباط الثلاثة أمام «دشمة» استقر أمامها «مقعد حديدى» فيما اخترق مجند قلب الكمين حاملاً أكواباً من الشاى للجميع الذين بادلوه بتحية وابتسامة.

ترقب وحذر ممزوجان بكثير من الحسم والانضباط فيما يتعلق بتنفيذ الحظر، وسكون تام يحيط بالكمين الذى يحيطه احتمال الخطر من كل ناحية بالطريق الصحراوى المظلم فى كل لحظة.

3 سنوات قضاها الملازم الأول الذى يتبع قوة الأمن المركزى فى سيناء، قضى اثنتين منها بقسم ثان العريش، الذى علق على مدة الخدمة فيه قائلاً «فى القسم كنا فعلاً بنشوف الموت بجد، كان يتم الهجوم على القسم يومياً بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسى، وبعد كده كانت مجرد محاولات يائسة للهجوم».

وعلى طريقة ردع أى هجوم على الكمين، وفقاً لما سبق من مواجهات بقسم ثان العريش، يقول ملازم الأمن المركزى: «إن أزمة الاشتباك فى سيناء هى خسة المهاجمين الذين ينتظرون لساعات الليل وحلول الظلام، ومن بعدها يبدأون الهجوم من مسافة بعيدة ودون استخدام أى مصدر إضاءة».

وفى المرات التى تم الهجوم فيها على قسم ثان العريش كنا نستهدف مصدر إطلاق الرصاص وسط ظلام دامس، فيما كنا نقطة ضوء واضحة يستطيع استهدافها، وعن أصعب اللحظات التى مرت عليه فى العام ونصف الأخير، أكد أن فقدانه زملاء أعزاء هو كان أصعب شىء، لا يعزيه فيهم سوى كونهم شهداء.

لا أحد يمر من الشمال للجنوب أو العكس مهما كان عذره أو سببه، هكذا كان شعار الضباط بالكمين، إلا أن «إشارة لاسلكية» غيرت من هذا الشعار، حيث سيفتح الكمين بواباته الحديدية مستثنياً سيارة إسعاف كانت تقل مريضاً من العريش إلى رفح.

الإسعاف والحالات التى يتم إخطار القوات المسلحة بها ثم إخطارها لنا بالسماح بمرورها هم من يتم استثناؤهم من الحظر، هكذا بدأ ضابط البحث الجنائى حديثه، مستطرداً: «القانون واضح، وأى جسد متحرك مشتبه به قد يردى قتيلاً إذا لم ينصع للحظر وأوامر قوات التأمين» وإذا تم القبض على أى شخص اخترق الحظر يتم الكشف عن سجله الجنائى فى لحظات والتعرف على هويته ثم يتم التحفظ عليه وتحرير محضر بالواقعة.

لحظات ثقيلة تمر على الجميع، تحمل كل منها احتمالية وقوع هجوم إرهابى جديد، يواجهه هؤلاء الرجال، الذين حملوا أرواحهم على كفوفهم ليواجهوا الموت دون خوف، بهذه الكلمات وصف أحد أفراد الكمين الوضع الحالى بشمال سيناء.

وفى طريق العودة من كمين الميدان لكمين آخر، وتحديداً أمام نادى ضباط الشرطة بوسط العريش، سمع الجميع جلبة كبيرة صادرة عن تجمع يضم 3 مدرعات وسيارة نقل ثقيلة تحمل عدداً من العوائق الحديدية.

وداخل المدرعة التى تقود الفوج الأمنى استقر اللواء محمد عفيفى، مساعد مدير الأمن للأمن العام بجانب السائق، وأمامه مجموعة من الأجهزة اللاسلكية تربط شبكة اتصالات بين جميع القوات المشتركة فى التأمين والكمائن والمديرية وقوات التمشيط وضبط مخترقى الحظر.

التقط اللواء «عفيفى» جهازه اللاسلكى وأكد بدء التحرك لتمشيط العريش بدءاً بشارع البحر، فيما أعطى أمراً لمجموعة من القوات للتحرك من طريق مديرية الأمن باتجاه كمين الميدان.

4 أفراد و3 ضباط احتلوا المساحة الخلفية للمدرعة، وارتدى كل منهم «شدة كاملة»، فيما كان تسليح كل منهم عبارة عن سلاح آلى وسلاح شخصى طبنجة.

وبمجرد بدء تحرك المدرعة اعتلى «فرد كاشف» صندوقا معدنيا بجانب مقعد سائق المدرعة، ورفع السقف الفولاذى مشهراً سلاحه الآلى، حيث تتمثل مهمته فى كشف أطول مسافة ممكنة من الطريق الذى تسلكه المدرعة مع تأمين جهتى اليسار واليمين والمبانى المجاورة لسير المدرعة.

السير فى شوارع العريش فى تمام السادسة والنصف مساءً يشبه تماماً السير فى الصحراء فى منتصف ليلة مظلمة، لا شىء يسير على الأقدام فى الشوارع، لا وجوه تطل من النوافذ، لا شىء سوى مدرعات التأمين والكمائن والطلقات التحذيرية أو ربما ليست كذلك.

اخترق صوت أذان العشاء صمت المدينة، وبعد ما يقرب من 15 دقيقة من صوت الأذان اخترقت المدرعة شارع 23 يوليو ليظهر أول شخص فى ساعات الحظر، ملتح يرتدى جلباباً أبيض، يسير فى ثقة، لا يحمل شيئاً فى يديه سوى مسبحة، لم يتوقف، ولم توقفه أى من مدرعات قوات التأمين.

حوالى 7 آخرين بنفس هيئة المتجول السابق يسيرون بنفس الثقة باتجاه المدرعات على جانب الطريق، دون أن يتم استيقافهم، وتحدث اللواء عفيفى لينهى أى دهشة لهذا الموقف قائلاً: «هؤلاء المارة جاءوا من صلاة العشاء، وخرجوا من المسجد الذى يتوسط شارع 26 يوليو وهم عائدون لمنازلهم الكائنة بالقرب من نفس المسجد».

«لا نوقف المصلين، وسيارات الإسعاف، ولا نغلق المستشفيات والصيدليات والمخابز طوال فترة الحظر، دون ذلك لا نستثنى أحداً مهما كانت صفته ووظيفته وعذره لخرق حظر التجول، فيتم إيقافه وضبطه وتحرير محضر خرق حظر تجول ضده».

واستطرد اللواء عفيفى قائلاً «يتم التنسيق مع سيارات الإسعاف قبل تركها من موقعها بالمستشفيات، وتخطرنا بمكان المريض أو المطلوب إسعافه، ويتم التنسيق مع جميع الأكمنة وقوات التأمين لإخطارها بمرور سيارة إسعاف لمنع التعامل معها، ويتم تفتيشها فى كل نقطة أو كمين».

أشارت عقارب الساعة إلى الحادية عشرة و47 دقيقة، حين صاح الفرد الكاشف من فتحة سقف المدرعة صيحة طويلة فى غضب «اثبت مكانك»، فتوقفت قدمان كانتا تسيران على مسافة ما يقرب من مائة متر فى طريق المدرعة، وتوقفت المدرعة تلتها بقية المدرعات وسيارات العوائق وترجلت مجموعة من 6 ضباط و6 أفراد بانتشار عرضى، شاهرين أسلحتهم، متجهين إلى مخترق الحظر وهم يتكئون نصف اتكاءة.

وفى أمر واضح لمخترق الحظر، صرخ فيه أحد الضباط «إيه اللى على ضهرك ده؟»، فأجاب وهو يضع يده على كتفه قائلاً «شنطة» فصرخ فيه الضابط مرة أخرى «حط الشنطة على الأرض»، فوضعها المتجول الذى اتضح أنه شاب فى العشرينيات، ورفع يديه أمام الضباط الذين تقدموا نحوه فى حذر، وما إن وصلوا إلى الشاب الذى جلس على ركبتيه حتى اصطحبوه إلى المدرعة، بعد أن فحصوا حقيبته، وتم اقتياده للمدرعة ليتم تحرير محضر ضده.



قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية