تلقينا دعوة – أخيرًا – من مركز العقد الاجتماعي (مركز معلومات ودعم اتخاذ القرار لمجلس الوزراء) لحضور ورشة عمل لمناقشة حوكمة القطاع الصحي ودور المجتمع المدني في ذلك، وكان منوطًا بي وبزملاء آخرين تحديد الدور الذي نراه للمجتمع المدني في مسار إصلاح القطاع الصحي وغيره من المحاور المرتبطة بالموضوع.
ودفعنا هذا للتفكير في دور المجتمع المدني عموما وخاصة في إطار تصاعد الجدل حول منظمات المجتمع المدني في مصر ومحاولة البعض تحويلها إلى مجرد عامل مساعد للحكومة خاضع لها وتحت سيطرتها. ظهر مفهوم المجتمع المدني في أوروبا عقب الثورة الفرنسية في 1848، وتنوعت ممارساته في أوروبا وفي الرأسماليات الناشئة، حيث بات من الواضح وقتها عجز أدوات الدولة والحكومة عن التعامل مع مطالب وتطلعات الجماهير. كانت الحلول الأمنية وحدها عالية التكلفة وعواقبها جسيمة، وبدأت المجتمعات تنهج نهجًا آخر تمثل في اعتماد آلية توافقية تمارس فيها هياكل وأدوات المجتمع المدني ومؤسساته دورا مهما.
ومرت المجتمعات المدنية والمفهوم ذاته بعد ذلك بتطور تاريخي في القرنين التاليين.
تمثلت المرحلة الأولى في نشأة منظمات وهيئات كانت تهتم بتقديم الدعم الإنساني والإنفاد في حالات الحروب والكوارث الطبيعية في أوروبا آنذاك (أمثال أوكسفام والصليب والأحمر). ثم ظهرت هيئات تعمل في مجالات التنمية في أطر صغيرة وتجريبية في مختلف المجالات الصحة والتعليم وغيرها. وفي المرحلة الثالثة، بدأ ظهور مؤسسات كبيرة تعمل كأطار داعم وممول ومساند للأدوار المجتمعية المباشرة (catalytic) أكثر من كونها مقدمًا مباشرًا للخدمات، فهي تسعى لمساعدة المنظمات الأخرى وبناء قدراتها العملية والتنظيمية وتكوين شبكات من الشراكات بينها. أما في المرحلة الرابعة والحديثة نسبيًا، بدأ ظهور المنظمات المحلية والدولية التي تتبنى المنظور الشامل لحقوق الإنسان في التنمية وتروج لمفاهيم الاستدامة والمشاركة وعدم التمييز، خاصة في البلدان النامية، وهي تهدف إلى بناء كتل مستقلة، غير مركزية، مدعومة برؤية اجتماعية وبلورة استراتيجيات لبناء علاقات بين مختلف المنظمات غير الحكومية، تهتم بالسياسات الكبرى وبالقضايا البنيوية والمؤسسية بهدف تحقيقها لحق الإنسان في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
وفي هذا الإطار التاريخي، من المهم الإشارة إلى أن هذه الأدوار المختلفة لمنظمات المجتمع المدني ليست بديلة عن أدوار الحكومات من حيث التزاماتها ومسؤولياتها تجاه المواطنين. مقياس تقدم وتحضر الدول الحديثة يمكن ربطه بوجود مجتمعات مدنية قوية، مستقلة، متنوعة ومؤثرة داخلها.
كما أن الدول الحديثة لا تستطيع تحقيق توازن وسعي لأن تصبح دولًا ديمقراطية دون الاعتماد على كيانات مدنية مستقلة تنشأ بينها وبينهم شراكة فعالة وبناءة، قائمة على المبادرة من جانب المجتمع المدني، وإفساح الطريق من قبل الدولة تشريعيًا وتنظيميًا وماليًا لذلك، ومن ثم بناء الثقة المتبادلة.
وفي المجتمع المدني الحديث في مصر، ربما مررنا بنفس المراحل تقريبًا وأصبحت الرؤية الحديثة تستند إلى منظومة متكاملة لحقوق الإنسان (مثل الحق في الصحة والتعليم والسكن والغذاء وحرية الرأي والتعبير والمعتقد وغيرها من الحقوق) في علاقتها بالتنمية المستدامة والتغيير الفكري في المجتمع سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا. وترسمت مفاهيم حقوق الإنسان في الدساتير المصرية الأخيرة حتى عام 2014.
وفي مجال الصحة بشكل محدد، تم اعتبار الحق في الصحة حقًا لكل فرد وفقًا لمعايير قابلة للقياس ويجب أن تلتزم الدولة باحترامها وحمايتها والعمل على تحقيقها ولو تدريجيًا دون تمييز. واعتبرت منظمات المجتمع المدني نفسها شريكًا في صنع السياسات الصحية الكبرى والتوجهات الاستراتيجية والعمل على رصد ومراقبة تنفيذها وفقًا لآليات عمل محددة مثل الدعوة والمشاركة والدراسة والبحث وإصدار التقارير الموازية والضغط المستمر على الدولة ومتابعة تنفيذها لتعهداتها ولالتزامها بحقوق الإنسان. كما قد تلجأ تلك المنظمات – كما فعلت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في السنوات السابقة – إلى التقاضي الاستراتيجي للدفاع عن الحق في الصحة في إطار المواثيق الدولية والدستور المصري، باعتبار أن الدولة قد صدقت على هذه المواثيق وأعلنت التزامها بها.
ومن خلال عمليات وأنشطة تسعى إلى تدعيم وتحريك جهود الأفراد والجماعات لتشارك في الوصول إلى الأهداف المتفق عليها لترسيخ مبادئ حقوق الإنسان وجني ثمار التنمية العادلة والمستدامة للحفاظ على السلم الاجتماعي إلى جانب الجهد التعليمي والدعوي وإنتاج المعرفة المبسطة التي تساهم في رفع وعي المواطنين حول حقوقهم – الصحية وغيرها.
لذا، ففي قطاع الصحة قام المجتمع المدني المصري بالعمل على آليات فعالة لحوكمة القطاع الصحي، كان من أهمها وضع والدعوة إلى مشروع لإعادة بناء وتأسيس مجلس أعلى للصحة في إطار الرد على سؤال كبير عنوانه «هل نريد حقًا إصلاحًا جذريًا للمنظومة الصحية؟ هل تود الدولة بمسؤولية وبجدية أن تجد مسارًا مختلفًا يحد من هدر الاستثمارات العاملة ومنع عشوائية وتضارب السياسات وتحقيق تكاملها وتوفير سبل أكثر فاعلية في توفير حماية صحية حقيقية لمختلف المواطنين دون تمييز؟ هل تود فعلًا تنفيذ آليات الحوكمة الرشيدة في المساءلة والمشاركة والشفافية؟ ووضع رؤية استراتيجية تنبع منها خطط محكمة يصغيها المجتمع وفق مشاركة حقيقية وتمثيل واقعي ومتوازن بين أصحاب الحق والمكلفين بتحقيقه؟»
كما سعت منظمات المجتمع المدني أيضًا إلى تفعيل ما يسمى بلجان حقوق المرضى في مختلف الوحدات والمؤسسات الصحية لمراقبة ورصد الأداء وجودة الخدمات الصحية ووضع إطار تشريعي لهذه الحقوق في قوانين أو وثيقة ملزمة يتوافق عليها أصحاب المصلحة والمهنيين لإحكام ربط الأداء بحق المريض.
وفي القلب من تلك الآليات، المشاركة في صنع قانون جديد للتأمين الصحي الاجتماعي الشامل يتم من خلاله إعادة هيكلة المنظومة الصحية وإصلاح محاورها في تمويل وتنظيم وتقديم الخدمات الصحية المختلفة من أجل تحقيق كفاءة النظام وتدعيم الأنصاف في مخرجاته النهائية عبر أساليب تمويلية تأمينية عادلة تقوم بتوزيع أعباء المرض المالية من خلال صندوق لتوزيع المخاطر، إلى جانب تطوير كل الأطر القانونية الأخرى المكملة لإحكام وتكامل المنظومة الصحية مثل قانون المساءلة الطبية وقانون التنمية المهنية المستدامة.
وبهذا كله يمكن وضع مفاهيم حوكمة القطاع الصحي وآليات المساءلة المجتمعية والمشاركة في موضع التنفيذ بما يسمح بتأكيد الشعار المرفوع نظريًا حول أهمية دور المجتمع المدني إلى جانب دولة ديمقراطية حديثة تحترم القانون وتعتمد على مؤسسات حقيقية فعالة تضمن استدامة توزيع عوائد التنمية وفقًا لشعارات العدالة والكرامة والحرية.
حان الوقت لتقبل بل والترحيب بمجتمع مدني متنوع، مؤثر وقوي، يسمح للمواطنين بالمشاركة بفاعلية في وضع ومراقبة السياسات العامة. يتابع ويتحرك ويتفاعل مع متخذي القرار. يقوم بتجربة طرق بديلة لحل المشاكل، يتحرر من بيروقراطية الدولة وقيودها، ينفتح على العالم، يتعلم من تجاربه ويضيف إلى المخزون المعرفي للمجتمع. يدرب كوادر تستطيع قيادة التغيير ويشرك المجتمع في العمل العام بمختلف الطرق.
فشل الدولة في حل الكثير من المشاكل المعقدة لا يجب أن يسمح لها بتضييق النطاق على المجتمع المدني حتى يفشل هو الآخر. حرص الدولة على عدم الإخلال بالسلم العام لا يجب أن يعني المزيد من التضييق وفرض السيطرة على المجتمع المدني. فليست الحكومة وحدها صاحبة خاتم الوطنية والصالح العام والمنفعة العامة ولن تستطيع وحدها تحقيق أي تنمية مستدامة دون المشاركة الكاملة وغير المحدودة لهذا المجتمع المدني.
فبغير هذا المجتمع المدني سوف نعيد إنتاج النظام السابق الذي كان يستخدم شعارات المشاركة فقط للدفاع عن وجوده دون أن يسعى جديًا لوضعها في حيز التنفيذ، مما أدى إلى انهياره وهدد (ومازال) وجود الدولة ذاتها.