ما أظن أن هناك لفظاً يتردد على ألسنة البشر فى كل مكان من أقصى المعمورة إلى أقصاها مثل ما يتردد لفظ «داعش».
ويتردد لفظ «داعش» عند قلة من خلق الله بالإكبار والتوقير وهؤلاء هم من بايعوا منهم خليفة للمسلمين فى كل مكان. ولكن نفس اللفظ يتردد عند الكثرة الغالبة من بنى البشر بالرعب والخوف والازدراء والتساؤل عن كيفية الخلاص.
والسؤالان اللذان نريد أن نطرحهما فى هذا المقال ونحاول الإجابة عليهما هما.. أولاً: لماذا وُجدت داعش وأخواتها؟ وثانياً: كيف يمكن القضاء على داعش؛ هل بالقنابل التى تلقى على الداعشيين؟ وهل حتى بحرب برية تحيط بهم من كل جانب؟ أم أن القضاء على داعش يقتضى إلى جوار هذه الحرب ما هو أعمق من الحرب وأبعد تأثيراً وإن كان فيما يظهر أبطأ تأثيراً؟
هذان السؤالان هما موضوع هذا المقال.
أما عن السؤال الأول وهو: لماذا وُجدت داعش وأخواتها؟ فأظن أن ذلك مرتبط بتجارب الإسلام السياسى والخلط بين الدين والسياسة، ولعل داعش هى آخر تجليات الإسلام السياسى وأخطرها.
وتجارب الإسلام السياسى تقوم عند أصحابها – سواء فى ذلك الإخوان المسلمون أو القاعدة أو داعش أخيراً – على مقولة أساسية؛ أنهم وحدهم يملكون الحقيقة كاملة، وأن غيرهم ممن يختلف معهم لا يملك شيئاً من الحقيقة.
وإذا كانوا هم وحدهم أصحاب الحقيقة فإنه لا يجوز الخلاف معهم، بل إن الاختلاف معهم من الممكن أن يؤدى إلى الذبح بقطع الرقبة. وقد حدث ذلك بالفعل، إذ استباحوا دماء من لا يبايعهم من المسلمين الآخرين، بل وصل بهم الأمر إلى هدم كثير من دور العبادة ليس للمسيحيين والأيزيديين فقط بل للمسلمين أيضاً.
أعتقد أن الأمر جد خطير، وأن الخطر – للأسف الشديد المرّ – يقترب من حدودنا هنا فى مصر. فى ليبيا المتاخمة لحدودنا الغربية يوجد فى «درنة» إمارة داعشية. هذا من الغرب. أما من الشمال فمنطقة الهلال الخصيب – سوريا ولبنان والعراق – كلها تموج بهذا الخراب المتخلّف المدمّر.
وفى الجنوب فإن الحوثيين فى اليمن – وهم من آل داعش بالفكر والمعتقد وإن لم يكونوا منهم بالنسب – يهددون باب المندب. وتهديد باب المندب يجب ألا نأخذه ببساطة. إن باب المندب يعنى بالنسبة لمصر وللعالم حرية الملاحة واستمرارها وتدفقها فى البحر الأحمر وقناة السويس وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط.
وإذا حدث لا قدر الله وسيطر الحوثيون على باب المندب فإن ذلك يعنى بوضوح أن إيران والشيعة بالتالى سيمتد تأثيرهم على الأمن العربى كله وليس أمن مصر وحدها. وبالذات أمن دول الخليج كلها وفى مقدمتها دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية الشقيقتان المساندتان بقوة لمصر سياسياً واقتصادياً.
وهكذا يبين لنا مدى المخاطر التى تحدق بمصر.
هكذا نرى أن الأمر جدّ خطير.
ولكن لماذا حدث ويحدث هذا التمدد كله لهذه الجماعات؟ اعتقد أن هذا حدث لعدة أسباب، أولها الفهم الخاطئ لصحيح الإسلام وكونه ديناً للمحبة والتسامح والقرآن الكريم، وسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام شاهد صدق على ذلك، ولست محتاجاً أن أكرر ما قيل وما كتب مئات بل آلاف المرات.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن السياسات الخاطئة القائمة على الطائفية البغيضة والتفرقة بين سنة وشيعة – وهى تفرقة لا يعرفها ولا يقرها صحيح الدين – والمحاصصة فى بعض البلاد العربية بمعنى عدم فهم المعنى الحقيقى للمواطنة كلها ومعها ضعف الكيانات السياسية المدنية الليبرالية – هذا كله وراء تمدد هذه الجماعات وتوغلها على هذا النحو البشع واقترابها من هذا البلد الآمن الذى يعتز بجيشه القوى وحكومته الوطنية وكنيسته وأزهره جميعاً.
هذا عن التساؤل الأول.
أما التساؤل الثانى وهو: كيف يمكن التصدى لداعش وأخواتها واجتثاثها من الجذور؟ الأمر ليس سهلاً ولكنه أيضاً ليس مستحيلاً.
التصدى لهذه التنظيمات التى تريد أن تعود بنا إلى ظلام الجاهلية يكون بالعلم والثقافة العلمية والفهم الصحيح لجوهر الدين: عموم الدين. والتفرقة الواضحة بين ما هو دينى وما هو سياسى. وعدم الخلط بينهما، ذلك أن الخلط بينهما كان وراء الكثير من هذه المصائب التى تحيط بنا.
والأمر كما قلت ليس سهلاً ولكنه أيضاً ليس مستحيلاً. إن المجتمعات الإنسانية مرّت بأطوار عديدة من التخلف إلى التقدم. والأمر فى كل الأحوال – سواء كان التخلف أو التقدم – يتعلق بالعلم والثقافة العلمية.
خذ أوروبا قبل عصر النهضة وأوروبا بعد أن سادها العلم وتخلصت من سيطرة الكنيسة ستجد أن الفارق واسع، وهو الفارق بين التخلف والتقدم.
وخذ الفكر الإسلامى قبل المعتزلة وقبل ابن رشد وبعدها ستجد أيضاً أن الأمر هو الفارق بين التخلف والتقدم.
لا حلّ على المدى الطويل إلا الاهتمام بالتعليم والبحث العلمى والمنهج العلمى فى التفكير وكلها أمور ليست سهلة ولكنها ضرورية ولازمة.
وأعتقد أن الأمر يحتاج إلى أكثر من مقال.