17 أكتوبر 1973 الساعة الثامنة مساءً.. بقاعدة «الدخيلة الجوية».. انطلقت صافرات الإنذار.. إنذار بهجوم على القاعدة من ناحية البحر.. أوامر بالخروج من المبانى والاتجاه مباشرة إلى أقرب خندق.. أمامك.. وفى خطوات سريعة وقفزات متتالية وجدت نفسى فى خندق.. حفرة برميلية.. تسع فرداً واحداً واقفاً.. سكون خيم على المنطقة.. انتظاراً لما هو آت.. وننظر إلى البحر.. اللون الأسود هو الغالب.. وبعض ومضات نور من مراكب بعيدة.. على مدى البصر.. إنت فين؟؟ صوت الملازم أول طيار رفعت راغب عوض.. أجبته: أنا بجوارك مباشرة.. إنت شايف حاجة؟؟ لا!! يقولون إن الهجوم بزوارق إسرائيلية على القاعدة.. ربنا يستر.. معاك سلاح؟ لأ!! لكن بجوارى عسكرى معه بندقية آلى.. اسمك إيه يابنى؟؟ جندى محمد يا فندم من سرية الدفاع عن المطارات.. طيب خليك مستعد.. رفعت راغب يسأل.. يا محمد إنت شايف حد أمامك؟ لأ!! 20 دقيقة مرت كأنها دهر انتظاراً للهجوم.. سماع أصوات الجنود تهمهم وتتمتم بالدعاء تارة وبتعليمات تارة أخرى.. صوت قوى لنقيب من سرية الدفاع يعطى أوامر صارمة لجنوده بأن يثبتوا فى أماكنهم، وانطلقت أول رصاصة باتجاه البحر.. انطلقت من جانبنا، وتوالت الطلقات من جميع المواقع بالقاعدة فى اتجاه البحر.. أصوات هادرة ومتتالية من طلقات رصاص من كل اتجاه.. الجميع ينظر إلى البحر.. الأوهام صورت للبعض أن هناك ضفادع بشرية تم إنزالها على الشاطئ، والجنود لا يسألون، فكل يصوب بندقيته إلى المجهول باتجاه البحر، ويعود الملازم أول طيار رفعت راغب ليسأل الجندى الذى بجواره.. إنت بتضرب على إيه؟؟ لا إجابة!! 20 دقيقة أخرى تمر لا ينقطع فيها صوت الطلقات النارية، وهنا يصرخ النقيب: «أوقفوا الضرب.. الكل يُوقف الضرب.. ليس هناك عدو.. لا شىء!!» ويعم الصمت على القاعدة، ويخرج من الخنادق ضباط وجنود وجنود صف ينظرون إلى بعضهم البعض.. الجميع بخير ولا خسائر، ولا توجد غارة، ولا هجوم.. إنه تحفز واستعداد قتالى على درجة عالية وكأن الكل ينتظر أن يشارك فى الحرب ولو بإطلاق عدة طلقات!! الظلام وضعف الاتصالات فى ذلك الوقت تسبب فى إهدار أكثر من 1700 طلقة فى الهواء.. إنها زاوية أخرى للحرب لم يرويها أحد. الكل يتحدث عن بطولات واشتباكات وتضحيات كثيرة وعظيمة تمت يوم 6 أكتوبر وما بعده، وهم بالقطع صادقون فى سرد الأحداث.أكتب تلك الكلمات لأقول إن كونك فى ميدان المعركة، وفى نطاق مسرح العمليات فى حرب 6 أكتوبر، هو فى حد ذاته اشتراك فى الحرب، حتى وإن لم تدمر أو تقتل أو تضحى، فإنك بطل من أبطال ذلك العصر.
عميد ملاح بالمعاش
محمد عبدالسميع عامر مراد
محلل سياسى اقتصادى