منذ بداية الإعلان عن تنفيذ سد النهضة الإثيوبى فى إبريل 2011، والذى يقع مباشرة على الحدود الإثيوبية - السودانية، حيث لا تتعدى المسافة بين السد الرئيسى والحدود 20 كم، فقد ثارت شواغل كثيرة لدى الجميع، يتساوى فى ذلك المواطن العادى ومتخذو القرار، وللوقوف على تلك الشواغل التى لا تتعلق فقط باحتياجات المواطن ولكنها تتعلق بأمن مصر القومى، فقد كانت هناك اتفاقات بين القيادات العليا بالبلدين على بدء حوار بشأن الآثار المحتملة لسد النهضة الإثيوبى على مصر، حيث أسفرت تلك الاتفاقات عن تشكيل لجان فنية: الأولى كانت عبارة عن لجنة دولية عملت خلال الفترة من مايو 2012 حتى مايو 2013، والثانية عبارة عن لجنة ثلاثية وطنية بدأت أول اجتماعاتها فى الفترة من (20-22) سبتمبر 2014 بغرض تنفيذ التوصيات التى وردت فى التقرير النهائى للجنة الأولى، وذلك بناء على البيان المشترك من السيد رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء الإثيوبى.
وقد يتساءل البعض عن أهمية أو ضرورة تكوين هذه اللجان، بينما تمضى إثيوبيا فى تنفيذ المشروع، ولكن الواقع يقول إنه كان لزاماً تشكيل وتفعيل هذه اللجان للوقوف على الأنشطة الفنية للمشروع، وذلك للربط بين ما ستسفر عنه الدراسات وما يجرى تنفيذه على الأرض، لأنه حتى الآن لم يتم الاتفاق على أبعاد ومواصفات السد، ولم يتم تحديد آثاره وكيفية مجابهة تلك الآثار، وهو ما يمكن أن تسفر عنه الدراسات المزمع إجراؤها خلال ستة أشهر.
وكما يعلم الجميع، فقد كان هناك عدد من الزيارات لموقع السد، تخللت أعمال اللجنة الأولى (اللجنة الدولية للخبراء)، ولكن كانت أعمال تنفيذ السد فى مرحلة متقدمة، وكانت معدلات سير العمل تسير بوتيرة بطيئة، وذلك مرجعه إلى تجهيزات الموقع التى تستغرق فترة زمنية طويلة.
ومنذ بدء اللجنة الثلاثية الوطنية فى سبتمبر الجارى، وفى إطار ما يثار من تساؤلات فى الفترة الأخيرة عن أن أعمال التنفيذ فى السد قد وصلت لمرحلة متقدمة لدرجة أن بعض الصحف نشر أخبارا عن أن السد قد بدأ فى تخزين المياه وتوليد الكهرباء، كذلك كان من المهم إثارة هذه الشواغل المصرية مع السيد وزير الموارد المائية الإثيوبى فى الاجتماع الوزارى الرابع الذى عقد بالخرطوم فى أغسطس 2014، حيث أسفرت تلك المحادثات عن توجيه الدعوة من قبل الوزير الإثيوبى لكل من نظيريه المصرى والسودانى لزيارة موقع السد على هامش الاجتماع الأول للجنة الثلاثية الوطنية. وتم الحصول على موافقة القيادة السياسية على زيارة موقع السد بصحبة لفيف من خبراء السدود والمياه المصريين للوقوف على حقيقة ما يثار حول نسبة ما تم من أعمال بالسد.
وفى هذا الإطار فقد تمت الزيارة للموقع فى اليوم الثانى لعمل اللجنة الثلاثية، بحضور وزراء الدول الثلاث (مصر- السودان- إثيوبيا) وبعض الفنيين المتخصصين من الدول الثلاث، وقد كان حضور الوزير المصرى فى تلك الزيارة ليس من منطلق منصبه الوزارى السياسى وإنما بعين فنية هندسية- وبحكم عملى كأستاذ جامعى واستشارى هندسى- لرصد الأعمال التنفيذية للسد والوقوف على تقدم سير العمل وللرد على التساؤلات والاستفسارات التى أثيرت فى الفترة الأخيرة.
وتم استقلال طائرة صغيرة من مطار أديس أبابا إلى موقع السد، فى رحلة استغرقت قرابة ساعتين، لاحظنا خلالها الطبيعة الجغرافية الصعبة للهضبة الاستوائية، والتى تتميز بوجود الجبال والغابات والأنهار الكثيرة التى تغذى النيل الأزرق، والذى يغذى بدوره النيل بما يقرب من 60% من إيراده المائى مع انتشار اللون الأخضر الذى يغطى الهضبة، نظراً لغزارة الأمطار عليها.. وكلما اقتربنا من موقع السد، لاحظنا انتشار الصخور التى تشكك فى إمكانية الزراعة المروية من بحيرة السد فى حال إتمام السد.
خلال الزيارة، تم تفقد أعمال السد الرئيسى (الجانبين الأيمن والأيسر): وكما يعلم القارئ، فإن الأبعاد المعلنة للسد تتمثل فى ارتفاع قدره 145 مترا مقاسا من الأساسات، وطول السد 1800 متر، وتبلغ سعة بحيرة التخزين 74 مليار م3، وتوجد به محطتان لتوليد الكهرباء بقدرة 6000 ميجاوات، وكذلك فقد تم تفقد أعمال السد المساعد: ارتفاعه 50 مترا، وطوله 5 كم (يرفع حجم التخزين من 14 مليارا الى 74 مليار م3)، كما شملت الزيارة معامل اختبارات لضبط الجودة وأعمال الخلط والتكسير، التى تقوم بها شركة «سالينى» الإيطالية، وقد وضح أن هناك تأخيرا فى سير العمل (يجدر الإشارة إلى أنه كان من المخطط بدء الملء وتوليد الكهرباء فى سبتمبر 2014)، ولا يوجد أى تخزين حالى فى بحيرة السد، كما أن أعمال محطات توليد الكهرباء فى مراحلها الأولى، وتشير تلك المؤشرات إلى أن أعمال التنفيذ فى السد الرئيسى تعادل نسبة (15 - 20%)، وأن السد الرئيسى مازال فى مرحلة الأساسات، ومن المنتظر افتتاح المرحلة الأولى فى سبتمبر 2015، أما السد الركامى فمازال فى مرحلة ما تحت الأساسات. كما أوضحت الزيارة أن بعض الأعمال متأخرة كثيرا عن الجدول الزمنى، وبصفة خاصة ما يتعلق بإنشاء السد المساعد.
إن ما رأيناه فى موقع العمل يتيح مجالاً للتفاوض بشأن أبعاد ومواصفات السد، وهو أمر شديد الأهمية بالنسبة لمصر، لما أكدته الدراسات الوطنية من خطورة التأثيرات السلبية التى يمكن أن تنجم عن السد بأبعاده المعلنة، وهذا يعتمد على مخرجات الدراسات التى سوف يقوم بها المكتب الاستشارى الدولى، فى إطار أعمال اللجنة الثلاثية الوطنية.
ويمكن القول إن أهم مخرجات الزيارة هى توجيه ثلاث رسائل: الأولى من مصر لإثيوبيا، وهى أننا لسنا ضد أى تنمية أو توجه لتوليد الكهرباء لتحسين الوضع الاقتصادى للشقيقة إثيوبيا مادام لا يؤثر على تدفقات المياه المتجهة لدول المصب. والرسالة الثانية: هى مرحلة بناء الثقة بين الأطراف الثلاثة بدلا من الشكوك وعدم الثقة، كما كان بالماضى، وهو الأمر الذى ينعكس على إيجابية مفاوضات اللجان الوطنية.. ولمسه المفاوضون فى الاجتماعات السابقة. والرسالة الثالثة: هى رسالة من الوزير المصرى للمصريين وهى أن السد لم يبدأ تخزين المياه كما أعلنت وسائل الإعلام، وأن انتهاء المرحلة الأولى منه بسعة 14 مليار متر مكعب (التى توافق عليها مصر) لن يكون قبل عام ونصف تقريبا، وستكون نتائج الدراسات التى يقوم بها المكتب الاستشارى خلال ستة أشهر قد انتهت للأخذ بها فى الاعتبار فى مراحل إتمام بناء السد.
حفظ الله مصر وشعبها.