إلى مدى أبعد مما نتخيل وصل انفصال أجهزة الدولة عن الواقع وخططها المقترحة إلى قدر من الوردية وتجاوزها إلى تعمد الاستفزاز مع استعادة بديهيات الأولويات والجدوى ومفاهيم التخطيط البسيطة واستدعاء مشاهد مما يجري لنا نحن يوميا.. وزارة النقل وهيئة تشغيل مترو الأنفاق تدرسان تخصيص عربات سياحية مكيفة ومزودة بخدمة إنترنت مجاني في عربات المترو لرجال الأعمال وذوي الدخل المرتفع واختاروا لها أن تكون في مقدمة القطارات خلف السائق مباشرة.
يبدو أن الدولة مؤخرا كرست كل طاقتها لتغذية صفحات الإنترنت وعباقرة صفحات أصاحبي وإيجبت ساركازم سوسايتي بمواد جديدة للسخرية واستدعاء كل الإيفيهات الملائمة من ذهنهم ضمن خطة ومشروع قومي يحاول تسلية المواطنين وترفيههم.
الفكرة بحسب من بدأوا دراستها تهدف إلى تقليل الزحام.. عنوان براق وجميل.. كيف؟.. بتشجيع المواطنين ذوي الدخل الأعلى على ترك سياراتهم الخاصة والانتقال إلى ركوب المترو وذلك بعد توفير خدمة نظيفة ومناسبة لحالاتهم في مقابل تذكرة أعلى سعرا من تلك المخصصة للمواطنين العاديين، تبدو الفكرة للوهلة الأولى تسعى لحل أزمة الازدحام المروري التي توشك على خنق سكان القاهرة في الشوارع يوميا. لكن هل فكر صاحب هذه الفكرة قليلا في زيارة محطات مترو الانفاق أو عيش مغامرة ركوب الخط القديم إلى محطة المرج أو تحدى تغيير الخطين في محطة الشهداء؟ أو إحصاء نسبة من ينتظر خدمة أولية وأساسية في مقابل من ينتظر فقط التكييف والإنترنت لينتقل إلى المترو؟
مر ما يقرب من عام حتى الآن ومحطة مترو السادات – التحرير- مغلقة في وجه ملايين الركاب بحجة الاحتياطات الأمنية ولمنع وصول تظاهرات الإخوان إلى الميدان أو اعتصامهم داخله وإغلاقه وكأن من يريد أن يعتصم أو يتظاهر لا يستطيع الوصول على قدميه من أي مدخل آخر من مداخل الميدان الكثيرة. هل هناك دراسة لمدى تأثير ذلك على حركة المرور وعلى حياة المواطنين وتأخير التقاطر في المترو وتعطل مصالح البشر واضطرارهم إلى التكدس بشكل غير آدمي في محطة أبعد حتى يتمكنوا من الوصول إلى مقاصدهم وهل هناك نية لفتحها بعد تأجيل الأمر عشرات المرات حتى الآن؟
نفس التفكير السطحي والضحل يظن أن مشكلة المواصلات هي زيادة عدد السيارات الملاكي والتاكسي فقط، دون محاولة لفهم أسباب هذه الزيادة بدواع أخرى معروفة للجميع كالأمان الشخصي وخشية التحرش وسوء حال المواصلات العامة وعدم انضباط مواعيدها وأزمان التقاطر التي لا تستوعب الكثافات العالية بزيادة في عدد القطارات في الأنفاق أو عدد الأتوبيسات العامة ولا مشكلة المرور في توفير خطوط سير تناسب هذه الكثافات ولا شكل تطبيق المخالفات في الشوارع والطرق ولا صلاحية شبكات الطرق لاستيعاب هذا القدر من البشر وضرورة إصلاحها وتغييرها.
الدولة التي تركت المواطنين الذين تتجاوز أعدادهم في بعض الأيام مليوني ونصف المليون فرد يتكدسون في محطات المترو أو متشبثين بأبواب الأتوبيسات العامة وبين أرصفة محطات القطارات، ومن هرب منهم من كل هذا مضحيا بقسط كبير من دخله في سبيل راحته وقع في مأزق كوارث الميكروباص اليومية أو خناقات سائقي التاكسي على العداد وتقدير المسافات أخيرا توصلت إلى هذا الحل السحري.. الأكثر إثارة للسخرية هو تخيل مشهد «رجال الأعمال» المستهدفين في الخطة الجديدة وهم يسيرون وسط الحشود في طريقهم لركوب السلم الكهربائي –إذا كان قيد التشغيل- في محطة رمسيس.