التطورات المتلاحقة التى وقعت الأسبوع الماضى وبداية هذا الأسبوع أثارت انزعاجاً معتبراً لدى قطاعات واسعة من المواطنين العاديين الذين شاركوا فى الثورة ولا يزالون يحلمون بمصر الحرة الناهضة العصية على التبعية والانبطاح. ومصدر الانزعاج هو الشعور العام بأن أعداء الثورة لا يتورعون اليوم عن أن يقولوا ذلك علناً.
والحقيقة أن هذا الانزعاج له ما يبرره، فأكثر ما يغضبك فى أحداث الأسبوع الماضى أن يخرج علينا مرشح للرئاسة ليقول لنا إن مثله الأعلى هو حسنى مبارك، دون أى اعتبار للثورة التى قامت ضد مثله الأعلى هذا، وهى الثورة التى لولاها- بالمناسبة- لما تمكن هو شخصياً من الترشح للرئاسة أصلاً، والتصريح يكشف أيضا عن غياب أى احترام لشهدائنا ومصابينا فى هذه الثورة. فأحمد شفيق يقول لنا بكل وضوح إنه ينوى إعادة إنتاج النظام الذى ثار عليه ملايين المصريين، لأنه ببساطة نظام «مثله الأعلى»، ومما لا يقل إثارة للغضب أن يرشح نائب مبارك نفسه للرئاسة، فيتعهد بـ«تحقيق أهداف الثورة» التى كان ضدها على مدار الثمانية عشر يوما! والذى يثير علامات استفهام خطيرة هو تلك الأنباء التى تواترت عن أن هياكل الحكم المحلى، التى كانت أداة الحزب الوطنى الأساسية فى تزوير إرادة المصريين، قد انطلقت ماكينتها من أجل جمع التوكيلات لعمر سليمان فى يومين فقط، فإذا صحت هذه المعلومة، يتحتم أن نعرف ما إذا كانت هناك يد قوية حركت تلك الآلة، أم أن الأخيرة تتحرك هكذا من تلقاء نفسها.
الثورة المضادة إذن فى أكثر مراحلها انتعاشاً ووحشية، الأمر الذى يحتاج من كل القوى السياسية أن ترتفع لمستوى المسؤولية الوطنية، فالتاريخ لن يرحم أولئك الذين يتعاركون اليوم على جزء من الكعكة بينما الكعكة بأكملها معرضة للضياع.
والحقيقة أن النخبة السياسية المصرية بكل تياراتها وأطيافها لم تستوعب درس سقوط مبارك بمجرد توحدها، فهى ما إن اختفى مبارك من المشهد الرسمى، حتى عادت وبأسرع ما يكون إلى إعادة إنتاج المعارك ذاتها التى كانت دائرة بينها قبل الثورة. ودون أدنى اعتبار لأهمية اللحظة التاريخية التى تمر بها مصر، إذا بالقوى والتيارات السياسية تضيع فرصة غير مسبوقة للوصول لاتفاق وطنى جامع،
كان من الممكن فتح حوار جاد حوله بعد سقوط مبارك مباشرة والاستفادة من مناخ الود الذى ولده الميدان بين الأطراف المختلفة على مدى ثمانية عشر يوما، لكن بدلاً من ذلك، نحت بعض القوى للاستحواذ بينما نحت أخرى للإقصاء،
ولا أحد بريئاً مما وصل إليه حالنا اليوم، فالخطأ الفادح للإخوان والسلفيين كان الاستقالة بالمطلق من المهمة التاريخية التى تقع على عاتق الأغلبية فى لحظات التغيير الكبرى التى تحمل خطورة على مستقبل الوطن نفسه، والانشغال بدلاً من ذلك بقرارات لسان حالها يعتبر الأغلبية شيكا على بياض من الناخبين لفعل أى وكل شىء، والحديث المستمر عن «حق» الأغلبية فى أن تفعل هذا أو ذاك وتجاهل «حق» مصر. أما الخطأ الفادح الذى وقعت فيه باقى التيارات، فهو تصور أن بالإمكان تحقيق ما يريدون من أعلى،
مرة من خلال وثيقة الأزهر ومرة عبر وثيقة «السلمى» ومرات عبر اللجوء للمجلس العسكرى، كان آخرها مطالبته بحل البرلمان،
وكأن اللجوء للمؤسستين الدينية والعسكرية لا يتعارض مع الدعوة للدولة المدنية! الأسوأ من هذا وذاك، أن الكثير من أخطاء المجلس العسكرى ما كان يمكن لها أن تحدث أصلاً لولا انقسام القوى السياسية على نفسها واستعداد كل منها للتحالف مع المجلس من أجل إقصاء الأطراف الأخرى، لذلك ليس أقل من أن نضغط على تلك القوى السياسية ونخبتها أن تفيق مما هى فيه وتتحمل مسؤوليتها فى إنقاذ مستقبل مصر.
وعلى هذه القوى أن تعترف، ولو لنفسها على الأقل، بأن عبقرية الثورة كانت أن شبابنا أدركوا أمراض القوى السياسية ونخبتها فتجاهلوهم بالمطلق وأطلقوا الشرارة الأولى دونهم، ولو كان الشباب قد انتظرهم لما قامت الثورة أصلا. وتجاهل تلك النخبة جعلها وقت الثورة تابعاً لا قائداً، فهى انضمت للثورة ولم تصنعها.
لذلك كله، فالأمل يظل منعقدا على أولئك الذين أشعلوا الثورة وقدموا التضحيات الكبرى دون انتظار المقابل أو الحصول على جزء من الكعكة، ومن هنا أقول لشبابنا الذى شعر بأن الكل تخلى عنهم لا تركزوا كثيرا على تلك الحقيقة، فأنتم وليس القوى السياسية صناع الحدث الأهم فى تاريخ مصر المعاصر. ومن هنا، فإذا لم تفق تلك النخب،
الآن وليس غدا، فأدعوكم صراحة لتجاهلها من جديد، كما تجاهلتموها من قبل، فنحن اليوم فى معركة حاسمة هى معركة إنقاذ الثورة واستكمالها، وليس لدينا وقت نضيعه مع نخبة استقالت من دورها الوطنى.
واستكمال الثورة، خصوصا فى المرحلة الحالية، لا يتحقق، فى تقديرى، بالعودة للميدان وحدها، فللثورة أدوات كثيرة، والمرحلة الحالية تتطلب بالدرجة الأولى العمل القاعدى، أى فى القرى والنجوع وبين الناس، خصوصا فى الريف. ثم إننى على قناعة بأن لديكم القدرة على التفكير فى أدوات أخرى خلاقة إلى جانب العمل القاعدى.
فيا شباب مصر، لا تنتظروا أحدا، واحذروا استدراجكم للغرف المكيفة لإعادة إنتاج صراعات وهمية، بينما الثورة فى خطر. انطلقوا لرحاب الفضاء الأوسع وخذوا فى صفكم من جديد المواطن البسيط، بالعمل معه لا العمل من فوق رأسه.