في سياق تقديم الدراما التاريخية شاهدنا في شهر رمضان الفائت مسلسل (سرايا عابدين) عن الخديو إسماعيل، وآخر عن عبدالناصر وصديقه عبدالحكيم عامر، وأقول إنه يلفت الانتباه تلك الهرولة في ماراثون رمضان، فيقودنا الاستعجال للوقوع في أخطاء مرعبة يصعب علينا تصحيحها في أذهان متلقيها، بعد استقرارها كحقائق، وهى أخطاء أقرب للجرائم، وكأن من عكفوا على كتابتها أبوا على نفسهم وبإرادتهم أن يبذلوا الجهد اللائق بالسير التاريخية، بالتدقيق واللجوء للمراجع ذات العلاقة بالموضوع، ويبدو أن أصحاب مسلسل سرايا عابدين أرادوا أن يحققوا الإثارة والإبهار، بمحاكاة «حريم السلطان» أو إعادة إنتاج أخطاء تاريخية وردت في فيلم ألمظ وعبده الحامولى، باعتبار إسماعيل لم يكن سوى زير نساء، نعم جميعنا يعرف أن الدراما إبداع وخلق واختلاق مساحات تثرى العمل الدرامى لكنها تمثل الهامش أو الرابط ولا تمثل المتن ولا تمس الثوابت التاريخية التي لا يختلف عليها مؤرخان، ومن حق كاتب الدراما أن يحقق مساحات للخلق والإبداع، تصل أحياناً لاختلاق ورسم شخصيات، وأحداث ربما لم تكن موجودة تاريخياً، لكن القائمين على إنتاج هذه الأعمال يحرصون على عدم المساس بالثوابت التاريخية المتفق عليها بأغلبية أو إجماع المؤرخين، ويقفز للذاكرة مسلسل بوابة الحلوانى للسيناريست محفوظ عبدالرحمن، الذي تعرض لحقبة الخديو إسماعيل، حيث لم يكن دقيقاً فقط، وإنما أورد شخصيات تاريخية مهمة، لازمت إسماعيل، على رأسها أخوه في الرضاعة إسماعيل صديق المفتش، وكان وزيراً للمالية، ومفتشاً عاماً على الأقاليم.
وحيث إن أسرة مسلسل «سراى عابدين» بصدد إنجاز جزء ثانٍ فقد لزم الأمر تقديم قراءة موثقة لإسماعيل وعصره.
وأقول: لسنا في حاجة لمزيد من تشويه وتحريف تاريخنا بإرادتنا أو دون أن ندرى، وقد بدا وكأن هذا التاريخ، قد حصل حُراسه على إجازة طويلة.
ونبدأ سيرة الخديو إسماعيل من البداية، وعلى من أعدوا المسلسل الوقوف على الحقيقة، التي قفزوا من فوقها أو تجاوزوها عمداً، لتحقيق إثارة درامية رغم أن القصة الحقيقية أكثر إثارة من العمل الدرامى ذاته، ومن تفاصيل هذه الإثارة في عصر إسماعيل، تفصيلة علاقته السياسية بأخيه في الرضاعة إسماعيل المفتش، التي انتهت بمقتل المفتش، أمام سراى الجزيرة (قصر فندق ماريوت حاليا)، حين استحكمت الأزمة الخاصة بالقروض المصرية من إنجلترا وفرنسا، وما ذكره المتاح من روايات المؤرخين، أن الخديو هو الذي أمر بقتل أخيه في الرضاعة، ككبش فداء للخروج من أزمة القروض.
وتقول سيرة الخديو إسماعيل بن إبراهيم بن محمد على، إنه ثانى أولاد إبراهيم باشا، من أم غير أم أخويه، الأميرين، أحمد رفعت ومصطفى فاضل، وولد إسماعيل في 31 ديسمبر 1830 في قصر المسافر خانة بالقاهرة في حى الجمالية، واهتم أبوه بتربيته، فتعلم مبادئ العلوم واللغات العربية والتركية والفارسية، بالإضافة إلى القليل من الرياضيات والطبيعة، وأرسله أبوه وهو في الرابعة عشرة إلى فيينا، عاصمة النمسا، وكان قد اعتراه مرض في عينيه، وتلقى العلاج في فيينا لسنتين، ثم أرسله جده إلى باريس في بعثة تعليمية، وعاد إلى مصر، وكان قد تقلد أبوه الحكم، وبعد وفاة والده إبراهيم باشا، تولى الحكم عباس باشا الأول، ودب خلاف بينه وإسماعيل، فسافر إسماعيل إلى إسطنبول، وأقام بها ولم يعد سوى بعد وفاة عباس، وولاية سعيد باشا، التي كانت علاقته به حسنة حتى أنه عينه نائباً عنه كلما سافر خارج مصر.
وفى 1863 وبعد حكم دام ثمانية أعوام وتسعة أشهر وستة أيام، توفى محمد سعيد باشا، وكان عمره حين توفى 42 عاما، وفى 18 يناير 1863 تولى حكم مصر إسماعيل بن إبراهيم باشا بن محمد على باشا، وكان عمره 32 سنة، ولم يكن إسماعيل- بحكم سنه- هو الوريث الشرعى لسعيد في الحكم، وكان شقيقه الأكبر، أحمد رأفت، الوريث الشرعى، غير أنه مات غرقاً في 1858 عند كفر الزيات، وكانت القطارات القادمة من الإسكندرية تنقل عبر النيل عند المدينة، لعدم وجود كوبرى هناك آنذاك، وإثر ذلك أصبح إسماعيل الوارث الشرعى للحكم (وليست هناك أي شبهة تاريخية أن لإسماعيل يداً من قريب أو بعيد في وفاة أخيه الأمير أحمد رفعت) وعند وفاة سعيد باشا، سافر إسماعيل إلى إسطنبول لتسلم الفرمان القاضى بتوليته مصر، وقوبل هناك بحفاوة بالغة، وعاد بعدما صار والياً على مصر (وليس خديوياً)، لأنه صار خديوياً بعدما تولى الحكم بأربع سنوات، في 8 يونيو 1867، ففى هذا اليوم صدر فرمان شاهانى يجعل لقب والى مصر «خديو»، بدلاً من «والى»، وكان إسماعيل قد طلب أن يكون لقبه (عزيز مصر) فلما كان السلطان العثمانى اسمه عبدالعزيز لم يرحب بطلب إسماعيل، وبحث له عن لقب آخر، فوقع الاختيار على لقب خديو، وهى كلمة فارسية ترتفع بمن يحملها إلى مرتبة الملوك والسلاطين.
وفى حفل عام تولى الحكم، وحضر قناصل الدول وكبار الجاليات الأجنبية ولفيف من رجال الدولة، وخطب فيهم إسماعيل.. ومما قاله: «عزمت عزماً أكيداً على بذل ما أوتيت من همة وقوة لتحسين حالة هذا القطر وزيادة رخائه، وبما أن النظام والاقتصاد في المالية هو أساس كل حكومة صالحة، فإنى سأجعلها رائد كل أعمالى، ولكى أقدم دليلاً محسوساً على هذه الرغبة، وطنت النفس على ترك طريق أسلافى وعلى تخصيص مرتب سنوى لى لن أتجاوزه مطلقا، وأن أخصص جميع إيرادات القطر لتحسين شؤونه الزراعية، وآمل أن تؤدى حرية التجارة إلى نشر الرفاهية والرخاء بين جميع طبقات الشعب».
والتزم إسماعيل بكل ما وعد به في خطبته التاريخية، باستثناء استنكاره في خطبته لسياسة الاقتراض التي لم يلتزم بها وأدت في النهاية للإطاحة به، بل وتطرف في مخالفته لهذا الوعد.
لكننا نعود لنقطع بأن محطة الخديو اسماعيل في حكم آل محمد على باشا لمصر، محطة مهمة وحققت نقلة حضارية مهمة تضاف للنقلة التي حققها جده.
ومما نرصده من منجزاته إنشاؤه المتحف المصرى (الأنتكخانة) التي بدأ ميريت باشا مشروعه في عهد سعيد، وبعد عام من توليه ازدهر الاقتصاد.
وفى 1866 أنشأ مصلحة البريد، بعدما اشتراها من المسيو موتس (عكس الخصخصة) وصارت إدارتها مصرية وأبقى موتس مديرا لها.
وفى نفس العام 1866 أنشأ مجلس شورى النواب، فكان أول مجلس نيابى في مصر، وكان يتألف من 75 عضواً في دورة مدتها ثلاث سنوات، لكنه جعل سلطته استشارية وألقى في افتتاحه خطاباً يؤصل لمبادئ الديمقراطية، بأن يكون الأمر شورى بين الراعى والرعية، وتحول هذا المجلس بعد عشر سنوات إلى مجلس نيابى (برلمان) يصول ويجول ويسقط حكومة ويحدث ثورة.
وعلى ضوء ما اقترحه المجلس كانت النواة الأولى في التوسع والارتقاء في التعليم، ودعا المجلس لإنشاء مدرسة في كل مديرية (محافظة) وأوقف إسماعيل كثير من الأطيان على خدمة التعليم، ووضع النظام الذي على أساسه قامت لائحة تنظيم المدارس، التي وضعها على مبارك في السنة التالية. وفى عهده تحققت وتأكدت نهضة أدبية وفكرية.
وتحقق ميلاد جديد وأقوى للصحافة، ففى عام 1867 صدرت في الإسكندرية أول جريدة سياسية وطنية (وادى النيل)، التي أصدرها الشاعر الثائر عبدالله أبوالسعود أفندى، أحد تلاميذ الطهطاوى.
وفيما يتعلق بالحركة الفنية، فقد شهدت ازدهاراً كبيراً، بل ولدت في عهده، وبنيت في عهده دار الأوبرا، التي افتتحت في 29 نوفمبر 1869، وقبل الأوبرا أنشأ المسرح الكوميدى بحديقة الأزبكية، ومسرح زيزينيا في الإسكندرية، وكانت الفرق الأجنبية تقدم عروضها على هذه المسارح، ثم ولدت الفرق المصرية وكان أولاها فرقة يعقوب صنوع وعبده الحامولى في المسرح الغنائى.
ومن الأعمال الخالدة لإسماعيل إنشاؤه شارع الهرم على نحو يسهل مرور المركبات فيه، ودار الكتب، بناء على اقتراح تقدم به الرائد التعليمى على مبارك وزير المعارف آنذاك، كما أنشأ على مبارك مجلة روضة المدارس.
وفى عهد إسماعيل امتدت سيادة مصر إلى خط الاستواء، وتم تكليف الضابط الإنجليزى صمويل بيكر، برفع العلم المصرى هناك عند (غندركو)، وتكليفه بالقيام على رأس حملة لاكتشاف منابع النيل وإرساء الأمن هناك.
وأنشئت في عهد إسماعيل (مدرسة دار العلوم) 1872، وكوبرى قصر النيل (أبوالأشبال)، من خلال الاستعانة بشركة فرنسية، وكوبرى الجلاء (الكوبرى الإنجليزى)، بالاستعانة بشركة إنجليزية، فأوصل الجزيرة المنعزلة (الزمالك) بالقاهرة من جانب وبالجيزة من الجانب الآخر، وبلغ عدد الجسور، التي أنشئت حتى هذه السنة 426 جسراً وقنطرة.
وبلغت القاهرة مبلغاً كبيراً من اهتمام الخديو، الذي سعى لجعلها أشبه بالمدن الأوروبية، لتكون باريس الشرق، فأنشأ شارع محمد على من العتبة إلى القلعة بنظام البواكى، وشارع كلوت بك حتى المحطة، محاكاة لشارع ريفولى في باريس، وأنشأ أحياء جديدة، مثل حى الإسماعيلية (مصر الجديدة) وميدان الإسماعيلية (التحرير الآن) والشوارع المتفرعة منه والتوفيقية وعابدين وميدان الأوبرا، وأنشأ حديقة النباتات بالجيزة وحديقتى الأورمان والحيوان.
وأدخل نظام توزيع المياه بالأنابيب (المواسير) إلى البيوت بدلاً من السقائين وأقام التماثيل في الميادين العامة مثل محمد على في الإسكندرية وإبراهيم باشا في ميدان الأوبرا، كما أدخل نظام الإنارة بغاز الاستصباح مما ساعد على حفظ الأمن وأكسب الشوارع بهجة وجمالا
كما بنيت حمامات حلوان لمزاياها الصحية، وعمر هذا الحى، وأنشأ سكك حديد حلوان، وفى الإسكندرية عمر جهة الرمل، وأنشأ حديقة النزهة، وأنار الشوارع، وأصلح ميناء الإسكندرية.
ووصلت شبكة الخطوط التلغرافية إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه في أخريات عهد سعيد، وغطت الشبكة نحو 5582 كيلومتراً.
وفى 1873م كانت ثالث زوجات إسماعيل، جشم آفت هانم، قد أنشأت أول مدرسة للبنات المسلمات في السيوفية، وكن تلميذاتها الأربعمائة يتعلمن بالمجان، وتكفلت جشم هانم، بملابسهن وطعامهن، ومع الدراسة كن يتعلمن التطريز، وتابعت زوجته إنشاء مدارس البنات.
ولا ننسى أن الخديو أتم حفر قناة السويس، وكان من أولويات اهتمامه العمل على إنماء ثروة مصر الزراعية، فشق كثير من الترع، وبلغ عدد ما حفره أو أصلحه نحو 112 ترعة، وأهمها الإبراهيمية والإسماعيلية، وأقام على ترعة الإبراهيمية قناطر التقسيم في ديروط، وبحر يوسف وقناطر المنيا ومطاى ومغاغة وببا، وبلغ عدد ما أنشأه من قناطر ورياحات 426، بين الوجهين البحرى والقبلى، وأصلح القناطر الخيرية، وأنشأ مجالس تعنى بالزراعة في الأقاليم سماها (مجالس تفتيش الزراعة) وعنى بالتوسع في زراعة القطن، وقصب السكر، لاستحداث صناعة السكر، وأنشأ نظارة (وزارة) للزراعة، وأنشأ المعامل الكبرى للسكر (17 معملاً) في الوجه القبلى (المنيا وأسيوط وقنا والفيوم)، إضافة إلى معامل النسيج والزجاج والدباغة والورق.
وفى 1874 كان الضابط الأمريكى، الموظف في الحكومة المصرية، قد رفع العلم المصرى على بحيرة فيكتوريا، وأصبحت أوغندا تحت السيطرة والحماية المصرية. وأنشئت المحاكم المختلطة، وتأسست الجمعية الجغرافية. وأنشأ مجلس النظار (مجلس الوزراء)، وكان نوبار باشا أول رئيس للنظار.
وفى عهد إسماعيل، وضع محمد شريف باشا، أول دستور في تاريخ مصر، وهو دستور 1879.
وفى عهده أصلحت إدارة السكك الحديدية، بعد أن كانت مختلة، في أواخر عهد سعيد، وبذل إسماعيل جهداً كبيراً في مد السكك الحديدية لأنحاء مصر، وللتدليل على هذا، كان إجمالى طول السكك الحديدية قبل تولى إسماعيل 245 ميلاً، فأنشأ 1200 ميل غطت معظم المدن المصرية، إضافة إلى إنشائه مصلحة الإحصاء والمساحة والأرصاد بالعباسية، ودار الآثار العربية والمتحف المصرى.
وكان الشأن الصحى من أولوياته، ما كان له فضل عظيم في مواجهة الأوبئة والأمراض، فأنشأ مستشفيات أميرية في معظم المدن المصرية بل والسودانية.
هذا هو إسماعيل الذي مازلنا نرى شواهد ما حققه من حولنا في أي مدينة مصرية، الذي كان أبرز عيب في عهده، هو سياسة الاقتراض، التي فتحت الباب للتدخل الأجنبى في الشأن المصرى، بذريعة المطالبة بالديون المستحقة، ما اضطره لبيع أسهم مصر في قناة السويس لـ«إنجلترا»، في نوفمبر 1875، وكان من أبرز صور الوصاية الأجنبية على مصر، إنشاء صندوق الدين في 2 مايو 1876، ثم الرقابة الثنائية على مصر، حتى جرى خلعه في 26 يونيو 1879، بإيعاز من ألمانيا والنمسا وإنجلترا وفرنسا.