فعلًا، التاريخ يكتبه المنتصرون. وقد كتبت دولة يونيو كتاب تاريخها وطبعته وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان.
فقد ثار جدل عنيف قبل يومين حول كتاب التاريخ للمرحلة الثانوية، بعد المقتطفات التي نشرتها «المصري اليوم» من المنهج الجديد بعد التعديل، والتي صاغت رواية بعينها للأحداث منذ 25 يناير وحتى اللحظة.
فقد تبنى كتاب التاريخ سردًا بعينه للأحداث مفاده أن الإسلاميين تآمروا لإظهار أنهم هم الذين فجّروا ثورة يناير، ثم تكالبوا على الحكم وأقصوا خصومهم، ثم فشلوا في الحكم فأطيح بهم منه، ونصبوا أكمنة إرهابية في رابعة والنهضة لكننا أزلناها والحمد لله.
(2)
بالطبع لو استمر الإخوان في الحكم كان سيجيئك ابنك أو أخوك الصغير ليسألك عن إجابة أسئلة من طراز:
-بم تفسر نجاح الإخوان في قيادة ثورة يناير منذ اللحظة الأولى ووصولها بمصر إلى بر الأمان.
-ما النتائج المترتبة على إرساء الرئيس محمد مرسي للأجواء الديمقراطية بالبلاد.
-اكتب موضوع تعبير عن جهود المهندس خيرت الشاطر في النهضة الاقتصادية بمصر.
-وضّح المواطن الجمالية والبلاغية في خطاب المرشد العام محمد بديع في رسالة شهر رمضان الماضي للشعب المصري.
-وضّح بالشرح أسباب حصول عاصم عبدالماجد على قلادة النيل لأجل جهوده في حفظ السلام الاجتماعي بالبلاد.
(3)
رغم اتفاقي الشخصي مع المؤدى النهائي لمنهج التاريخ الجديد ورغم اتساق قناعاتي السياسية ومعظم ما ورد في هذا الكتاب إلا أن الأمر برمّته مثير لتساؤلات أعقد من مجرد الاتفاق أو الاختلاف معها.
ليس خافيًا مدى الانشقاق الواسع داخل الشعب المصري حول توصيفه لما جرى منذ 25 يناير وحتى اليوم.
البعض يرى أن يناير مؤامرة، والبعض الآخر يرى يناير ثورة، وغيرهم يرونها ثورة منذ 25 حتى 27، لكن في 28 تحوّلت لمؤامرة!
البعض يرى 30 يونيو ثورة، وآخرون يرونها انقلابًا، وغيرهم يراها ما بين ذلك وذلك قوامًا.
يعتقد البعض أن شفيق هو الذي فاز في الانتخابات ويعتقد آخرون أن المجلس العسكري كان عليه أن يمنع وصول الإخوان للحكم، ويتبنى غيرهم نظرية مفادها: كان ينبغي أن يستمر الإخوان في الحكم وتكون المحاسبة في نهاية السنوات الأربع، في حين يذهب آخرون إلى أن الدولة كان عليها أن تسحق الإسلاميين منذ البداية وأن طنطاوي تساهل معهم كثيرًا.
يعتقد الإسلاميون أن الجيش أجهض تجربة «الحكم الإسلامي» وأنهم كانوا أطهارًا أبرياء، ويعتقد فصيل أقل تشددًا أنهم كانوا أقرب للفشل منهم للنجاح، لكن كان ينبغي أن يأخذوا فرصتهم كاملة.. وهكذا دواليك دواليك.
كل بيت في مصر الآن ينشئ أطفاله على رواية بعينها حول يناير وما بعدها بسردية لا تتسق بالضرورة مع الرواية التي يعتنقها أصحاب هذا الطفل في المدرسة.
لدينا عشرات الروايات المتضاربة والمتناقضة والمقوضة ذاتيًا. لا توجد رواية واحدة بلا ثغرة واضحة وجلية.
أعود وأقول إنه رغم اتفاقي مع رواية الكتاب إلا أن صياغتها فجّة ومفرطة في الانفعال الذي يخرج بها عن كونها رواية كتاب مدرسي تعليمي.
(4)
الفقرات الثلاث القادمة من كتاب التاريخ الذي يدرسه الطلاب هذا العام:
«شد أزر التيار الإسلامي أن اللجنة التي عهد إليها بالنظر في تعديل بعض مواد الدستور وإصدار إعلان دستوري مؤقت سيطر عليها مفكرون إسلاميون، وعندما طرحت التعديلات للاستفتاء العام في 19 مارس (2011)، طافت الأحزاب القائمة على أساس ديني على الجماهير تدعوهم لقول (نعم) وإيهامهم أن ذلك لصالح الإسلام، فلما جاءت نتيجة الاستفتاء بـ(نعم) اعتبرته تلك الجماعات نصرًا مؤزّرًا».
وعن فترة وصول محمد مرسي لحكم مصر، جاء في الكتاب أن «الجمهورية الجديدة، التي وقعت في يد الإخوان المسلمين بدأت تمارس السلطة بنفس الأسلوب الذي كانت تمارس به الحكومات السابقة سلطاتها ألا وهو حماية المصالح، التي تعبر عنها بمختلف الوسائل القانونية والاستثنائية وتريد من الجميع الانصياع لها والإيمان بقدرتها على إنجاز الأمور، وبالتالي فإن الذين يعارضون يدخلون في دائرة التمرد والعصيان ويحق عليهم العقاب».
وفي فقرة أخرى، جاء في الكتاب أنه «لم يمض وقت طويل على حكم جماعة الإخوان في مصر حتى بدأ الشعب يدرك أنهم لم يقدموا أي حلول للمشكلات الرئيسة، ولا تحقيق أي من مطالب الشعب في الحرية والكرامة والعدالة، بالإضافة إلى الاستبداد في الحكم، ومن ثم تجمعت نذر الثورة مرة أخرى ضد حكم جماعة الإخوان من أجل استعادة ثورة يناير 2011 ووضعها في الطريق الصحيح».
(5)
لا أظن أن من وظائف كتاب التاريخ أن يتلافى المناطق الإشكالية الشائكة، لكن من ناحية أخرى ليس من وظيفته تغليب رواية بعينها على أخرى على هذا النحو الفج.
فهناك عشرات الآلاف من أبناء الإخوان والسلفيين وغيرهم سيدرسون هذا الكتاب وهم لا يعتقدون أن ما ورد فيه هو الحقيقة، بل سيتعاملون معه باستخفاف واحتقار.
الأمر يشبه إجراءات بعض الدول الشيوعية التي كانت تجبر الجنود الأمريكان الذين يقعون أسرى لديها على دراسة الشيوعية، ثم يعقدون امتحانات لهم في المناهج المقدمة، وإذا رسبوا فيها تزداد فترة عقوبتهم ويزداد سوء معاملتهم.. إلى أن يصيروا شيوعيين أو يزعموا ذلك!
كنت أتمنى أن يقدم الكتاب رؤية فلسفية متسقة مع نفسها، تشرح الوضع آخذة في الاعتبار اختلاف وجهات النظر الذي جرى بين فئات عريضة من أبناء الشعب المصري، وتترك للطلاب متسعًا من التفكير والتقييم بدلًا من تلقينهم إجابات صماء أقرب في صياغتها للمنشورات الثورية، برعونتها البلاغية المعهودة.
حتى لو أشار كتاب التاريخ في النهاية إلى أن «أقلية» من سكان مصر في هذا الوقت من عمر الزمان، اعتنقت كذا وكذا بينما اعتقدت «الأغلبية» كذا وكذا.
(6)
حكى المفكر السوري صادق جلال العظم ذات مرة عن نشأته بإحدى المدارس المسيحية المتشددة، والتي كان أساتذتها يلقنونهم المعرفة بصياغة مهذبة جدًا.
فيقولون لهم: يقول العلم كذا وكذا.. أو تقول النظرية كذا وكذا.. بينما رأي الكتاب المقدس كذا وكذا.. ويتركون الطلبة لقناعاتهم التي يكوّنونها بجهودهم الذاتية.
وراقتني هذه الطريقة جدًا، إذ إنه في نهاية المطاف لا يمكن اعتماد رواية بعينها حول ما جرى على أنها الحقيقة المطلقة وما سواها الزور المبين والفري العظيم.
وربما في مناهج تعليمية جديدة، تدرك أن كل شيء نسبي، وأنه ينبغي إيقاظ الحواس والملكات النقدية للطلاب، سيكون مطلوبًا منهم كتابة إجابات حرة يتم تقييمها وفقًا لاتساقها وتماسكها، لا وفقًا لمضاهاتها للنص «المحفوظ» من كتاب الوزارة كأنه الوحي الجليل الذي لا حيدة عنه ولا حقيقة سواه!