قبل الثورة بسنوات كنت قد كتبت دراسة نشرت فى إحدى الدوريات الأجنبية قدمت فيها اجتهاداً، كنت أتحفظ فيه على المتداول فى الكتابات الغربية عن طبيعة التحديات التى يمكن أن يشكلها وصول الإخوان المسلمين للسلطة فى مصر، وقتها قلت إن التحدى الرئيسى الذى سيواجه القوى السياسية المصرية لن يكون هيمنة «الأصولية الإسلامية»، كما يحلو للغربيين أن يقولوا، وإنما سيكون استمرار احتكار السلطة -على طريقة الحزب الوطنى- وإن كان هذه المرة احتكاراً مغلفاً بالأيديولوجيا، أى أن القضية المحورية حال تولى الإخوان هى احتكار السلطة لا الأيديولوجيا، وكم تمنيت بعد انتخابات مجلسى الشعب والشورى فى 2012 أن أكون قد أخطأت التقدير فيما قلته فى 2007.. لكن للأسف صدق توقعى.
فيخطئ من يتصور أن المعركة الدائرة هذه الأيام بين الإخوان وباقى القوى السياسية معركة أيديولوجية بين تيار إسلامى وآخر علمانى، فالمعركة لا علاقة لها أصلاً بالإسلام ولا بهوية الدولة، فمعركة الإخوان فى هذه المرحلة ليست كفاحاً من أجل الحفاظ على الهوية الإسلامية لمصر كما يحلو للبعض أن يقول- بالذات للكوادر والمتعاطفين، وإنما هى معركة سياسية حول طبيعة النظام السياسى. بل إن خلاف المجلس العسكرى مع الإخوان ومع القوى السياسية الأخرى يدور هو الآخر حول طبيعة النظام السياسى، فالإخوان معنيون بالأساس بتأسيس نظام سياسى يسمح باحتكار السلطة عبر الهيمنة على السلطتين التشريعية والتنفيذية معاً، والمجلس العسكرى خلافه الجوهرى مع الإخوان وباقى القوى يدور هو الآخر حول طبيعة وضع المؤسسة العسكرية فى النظام السياسى الذى سيصممه الدستور.
وأنت إذا تتبعت الخلافات الرئيسية اليوم ستجدها كلها تدور حول صلاحيات المؤسسات المختلفة وأدوارها فى النظام الجديد. خذ عندك مثلاً موضوع إقالة حكومة الجنزورى الذى تصدر اهتمامات الإخوان فى الأسابيع الماضية، فقد فجرت تلك القضية خلافاً بين الإخوان والمجلس العسكرى يدور فى جوهره حول صاحب الحق فى إقالة الحكومة وتشكيل غيرها، هل هو الأغلبية البرلمانية ممثلة فى حزبى الحرية والعدالة والنور، أم رأس السلطة التنفيذية ممثلا فى المجلس العسكرى، وقضية المشروعات الاقتصادية للقوات المسلحة هى الأخرى معركة حول طبيعة النظام السياسى الجديد ووضع المؤسسة العسكرية فيه.
والمعركة حول الهيئة التأسيسية هى الأخرى معركة حول صياغة النظام السياسى الجديد لا حول هوية مصر، فالمؤكد أن جماعة الإخوان لديها قراءة دقيقة للخريطة السياسية، ومن ثم تعلم يقيناً أن الأغلبية الساحقة من القوى السياسية لن تطالب أصلاً بإلغاء المادة الثانية من الدستور المتعلقة بمبادئ الشريعة الإسلامية، الأمر الذى يعنى بالضرورة أن الجماعة تصر على التشكيل المعيب للهيئة السياسية لأسباب أخرى لا علاقة لها بالمادة الثانية ولا بدين الدولة ولا هويتها العربية الإسلامية، والتفاعلات الجارية تشير بوضوح إلى أن السبب فى تشكيل الهيئة التأسيسية بأغلبية كبيرة تميل نحو الإخوان هدفه ضمان موافقة تلك الهيئة على سيطرة الأغلبية البرلمانية على السلطتين التنفيذية والتشريعية معاً، ومثل تلك السيطرة تحدث فى حالتين، الأولى هى النص فى الدستور على اتباع النظام البرلمانى الذى تشكل فيه الأغلبية البرلمانية الحكومة ولا يوجد فيه فصل للسلطات، فتصبح الأغلبية البرلمانية هى المهيمنة على البرلمان والحكومة معا،
أما الحالة الثانية فهى النص على الإبقاء على النظام المختلط المتبع حاليا مع تعديل جوهرى على الطريقة الفرنسية، يجعل السلطة التنفيذية ذات رأسين، أى رئيس منتخب مباشرة من الشعب وحكومة تشكلها الأغلبية البرلمانية، ولكل منهما صلاحيات معتبرة. ولأن قيادات إخوانية عدة صرحت فيما سبق بأن الجماعة رغم ميلها للنظام البرلمانى، ستعمل فى المرحلة الانتقالية على إنشاء نظام مختلط، فقد أدركت الجماعة أن ذلك المختلط قد يؤدى لوصول رئيس له مواقفه المستقلة، بما يعنى عدم السيطرة الكاملة على السلطة التنفيذية، وهذا بالضبط هو السبب فى تقديرى لتغير موقف الإخوان من الترشح لمنصب الرئاسة، فبعد أن كانت الجماعة قد تعهدت بعدم التقدم بمرشح للرئاسة إذا بها تتراجع عن موقفها، وهو ما لا يمكن تفسيره إلا باعتباره جزءاً من الصراع حول طبيعة النظام السياسى، لأن هدف السيطرة على السلطتين التشريعية والتنفيذية معا يصبح مهدداً إذا ما فاز بالرئاسة من يصر على استقلاله فى صنع القرار حتى لو شكل الإخوان الحكومة.
السؤال الذى يستحق الدراسة فعلاً هو لماذا تقدمت فكرياً حركة النهضة التونسية ولم تتقدم الحركة الأم فى مصر، حتى إن حركة النهضة «الإسلامية» هناك حين وصلت للحكم قدمت مصلحة الوطن فى لحظة تاريخية حاسمة وتجنبت كل ما من شأنه إحداث انقسامات سياسية، بينما اتسم أداء جماعة الإخوان فى مصر بضيق الأفق؟
لكن السؤال الذى يدعو للحيرة حقا هو أننا إذا سلمنا بضيق الأفق فيما يخص الوطن، فما الذى يجعل الجماعة تحفر قبرها السياسى بيدها؟ فمصر تعانى تراجعاً مخيفاً فى كل المجالات، ومشكلاتها صارت بدرجة من التعقيد التى يستحيل معها لتيار سياسى بمفرده أن يعالجها، لذلك ما الذى يجعل تياراً، ولو حتى بمنطق براجماتى بحت، يصر على التصدى لمهمة يستحيل أن ينجزها بمفرده، فتكون النتيجة التأثير سلباً على شعبيته، وبالتالى على فرصه الانتخابية فى المستقبل؟ ولماذا يا ترى لم يستوعب أحد أن احتكار مبارك للسلطة وإغلاق كل القنوات الشرعية لمشاركة الناس فى صنع مستقبلهم كان سبباً محورياً لخروج الناس عن الأطر والمؤسسات الشرعية وإلى الشوارع؟