بمشيته المتأنية وجلبابه الأبيض النظيف وعمامته من ذات اللون، كان يلف في شوارع القاهرة والشمس في نزعها الأخير، وقد خفت حركتا البيع والشراء إلا من بعض الباعة السريحة حاملين القفف على الرأس وعليها خضر وفاكهة من أنواع شتى، لكن من المؤكد أنهم كانوا لا يحملون البطاطس أو الطماطم أو المانجو! لأنهم فى ذلك الوقت لم يكونوا قد تعرفوا بعد على هذه الأصناف!..صاحبنا هذا لم يكن بائعًا لما قد ُيشترى أو مشتريًا لما قد ُيباع، لذا لم تكن فوق رأسه غير عمامته، وما يعرضه على الناس كان يتدفق من فمه منغمًا وجميلاً وطريفًا ومشوقاً وغير معقول!.
..لم تكن المقاهي كما هي الآن، كانت مجرد كوات في الجدران، وكانت أشبه ما تكون بالمحلات الصغيرة التي نراها الآن، وكانت هناك دكة خشبية تسع من خمسة إلى سبعة أشخاص موضوعة بجانب كل طرف من طرفي الباب، بخلاف دكك المقهى الداخلية، من يجلس بالخارج هم من المميزين في المنطقة.. تجار وصنايعية ورؤساء حرف وطوائف، تخرج إليهم المشروبات والشيش والنارجيلة حيث يجلسون، أما من بالداخل فأغلبهم كان من الطبقات الأقل أو الذين يحتسون مشروباتهم على عجالة، حتى يعودوا إلى عملهم بسرعة، أو من المتوارين بالداخل بسبب ما قد يكون من بينه الثأر..موهبة صاحبنا هذا كانت نظم الشعر والتجول به في أنحاء البلاد كعادة ذلك العصر، وكانت منهم طائفة تستعين بالربابة وأخرى بالطبل أو الدف والنقرزان كإضافة موسيقية لإبداعهم.. المهم في هذه الحكاية المبكرة من تاريخنا ما كان يقوله هؤلاء الشعراء ويسمعه الناس ويستحسنوه..وإليك نموذج من هذا القول الطريف المثير!..
«كسرت بطيخة رأيت العجب..في قلبها أربع مداين كبار
وفي المداين خلق مثل البقر.. وفي كل واحدة أربع قلاعات حصار
وفي القلاع أقوام طوال الدقون.. ودمعهم جاري شبيه البحار»
إلى آخره.. وكان هذا النظم المدهش من البنية الأساسية للقصيدة التى يشدو بها الشاعر، بعد المقدمة الشعرية التى تحاكى الشعراء القدامى الذين كانوا يستهلون نظم بالغزل، ثم تليها مقطوعة تسمى دور «الهزل» التى ذكرنا منها الأبيات السابقة، وبعدها دور يطلق عليه دور «الجد» ثم ختام القصيدة، وقد انتقيت من هذه الأدوار المسماة بالهزل مايلى:
شفت الجمل قاعد بيعجن فطير.. ويخبزه ف البحر يطلع بقر
يرسم على المنسج جوامع لبن.. أما الموادن فقس قنبر دكر
ومن قصيدة أخرى الآتى:
زرعت فوق برغوت جنينة بلح.. بأربع سواقى لجل زرع الحمام
طلع الحمام بطيخ مطوق حجر.. قرن شبيه الفيل وضارب لثام
ألا يفكرك هذا أيها القارئ الكريم بالصرعة التي اجتاحت أوروبا من بدايات القرن العشرين والتي سميت بمسرح العبث، وقد بدأت في فرنسا تحديدًا في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين (1953) على يد المسرحي الفرنسي الموطن والإيرلندي الأصل صموئيل بيكيت بمسرحية أسماها «في انتظار جودو» والتي أطلقت ظاهرة أدبية مهمة ومثيرة للجدل اسمها العبث أو اللامعقول، ومن فرنسا اجتاحت كل دول العالم حتى وصلتنا وكتب أديبنا وأستاذنا الراحل توفيق الحكيم مسرحيته الشهيرة «يا طالع الشجرة» تقليدًا لتلك الظاهرة، رغم أن عنوان المسرحية مأخوذ من إحدى قصائد تراثنا المجهولة المؤلف ومن دور الهزل بالذات «يا طالع الشجرة هاتلى معاك بقرة.. تحلب لى وتسقينى بالمعلقة الصينى".. لكننا للأسف قوم كسالى لا نهتم بالبحث والتنقيب فى تراثنا، ومازلنا حتى الآن في مدارسنا ومعاهدنا الأكاديمية ندرس ونُدرس «في انتظار جودو» على أنها التي ابتدعت الظاهرة!
إذا ما الذي كان يقوله في شوارع مصر المحروسة الشاعر الجوال أحمد الأعرج، الذى سردنا بعض نظمه فى مقدمة المقال؟ قبل ظهور مسرح العبث بـ70 عامًا على الأقل..وهذا الكلام ليس من عندياتي بل من واقع نصوص جمعتها بعثة فرنسية أثناء الحملة الفرنسية على مصر من الشعراء الجوالين في شوارع القاهرة في أواخر القرن التاسع عشر، وطبعت أعمالهم في باريس عام 1893.. وسأذكر نصًا من هذه النصوص للشاعر أحمد الأعرج، لكي نتعرف على مستوى التركيب واللغة والنظم وإلى ذوق المستمع المصري في أحياء القاهرة وقتها، ونرى مدى قدرة هذا الشعب العريق على استيعاب الفنون الأدبية، كما سجل ذلك الأستاذ عبد العزيز جمال المحقق التاريخى المهم، في مجلة «مصرية» التي يتولى تحريرها وإصدارها.
يبدأ الشاعر بمقدمة غزلية بالفصحى بالمصرية الجميلة كالآتي:
(قلبي تولع بالغرام الغريم.. في ظبي خد عقلي بلحظة ومال
هواه ترك عقلي صبح في جنون.. أسكر وأغيب وأحضر بحب الجمال)
ثم يدخل في دور «الهزل» أو ما أطلقنا عليه شعر اللامعقول..
(يوم شفت ناموسة بتغزل قصب.. يطرح مراكب وسقهم «حبالهم» من عسل
ومن نزل فيهم بقصد السفر.. يطلع من الفيوم لبرج الحمل
من فوق صواريهم بتجري البحار.. فيها مواقع نخل تطرح بصل
وفي كل واحدة خلق مثل الجراد.. في خلقة الجاموس برجلين كبار
وإن قلت دا منه يجوز الفدا.. تصدق لأن القول ينافى الفعال)
بعد ذلك يدخل الشاعر في دور «الجد»
(باكر دخلت الروض بقصد النزه.. لقيت الطيور في فرح بين الغصون
جاهم أوان الربيع غردوا.. باعلا الشجر تلحين غريب الفنون.
بانت ثياب الياسمين في سحر.. أقبل بشير الورد زايد شجون)
ثم يختم قصيدته بدور يسمى دور «الاستشهاد» وفيه يقدم نفسه إلى المستمعين ويحاول أن ينول رضاء الشعراء المحترفين، ليكون من زمرتهم أو أحد أتباعهم، ودور «الاستشهاد» هو:
(أنا الفقير أحمد عريق النسب.. عاجز عن الطاعة كثير الذنوب
هل تقبلوني عبد يا أهل الأدب.. تابع لكم مداح حبيب القلوب)
هذا هو بعض تاريخنا المجهول والمسلوب، والمؤسف أننا حتى عندما حاولنا استحضاره من أجل الاستشهاد به والتدليل على عراقتنا، استعنا في سبيل ذلك بما سجله الأغيار من تاريخنا، من خلال ما دونته البعثة الفرنسية إبان احتلالهم لنا، بينما انتشر أدب أمريكا الجنوبية فى العالم كله، وتعرفنا منه على أدباء عظام مثل ماركيز ويوسا وجورجى أمادو وإيزابيل الليندى وغيرهم، وهذا بسبب أنهم عكفوا على تراثهم وأخرجوا كنوزه ووضعوه بين ثنايا كتابتهم، فلفت أنظار العالم وخلب لبه، والعجيب والمحزن فى الأمر أن تراثهم الذى نهلوا منه جاء معظمه عبر الهجرات العربية الأولى «من الشوام خاصة» إلى بلاد أمريكا الجنوبية، وقد حمل هؤلاء المهاجرون الأول التراث العربي وأساطيره معهم، وهذا ظهر جليا فى أغلب إبداعات أمريكا الجنوبية التى سميت بالواقعية السحرية، والتى منبعها الأصيل كتاب «ألف ليلة وليلة» وباقى كتب التراث العربية، ومن يريد التحقق من كلامى هذا عليه إعادة قراءة ماركيز ويوسا وجورجى أمادو وصولا إلى باولو كويلهو الذى لا يكف عن النهل من تراثنا حتى الآن!. فلماذا نقصر فى قراءة تراثنا والاستفادة من مخزونه؟ هل لأن زامر الحي لا يطرب كما قال الشاعر العربي قديمًا؟