منذ ستين عاما عندما خضعت مصر لحكم نخبة عسكرية، تعلمت تلك النخبة الكثير من الأشياء الرائعة من الاتحاد السوفيتي، تعلمت كيف تبني المصانع، وتعلمت أيضاً كيف تقمع الفقراء الذين يعملون لهم فيها بأجور زهيدة؟.
مرت السنون وراح الاتحاد السوفيتي في الوبا، ولكن ظل التلميذ عايش لليوم متفوقاً على أستاذه، بل وخرجت سيطرة العسكر عن أبواب المصانع لبراحات أوسع من الهيمنة على أقوات الشعب، لقمع مواطنين آخرين مطحونين آخر طحنة.
لعل البعض قد لاحظ أن الأسبوع الماضي شهد هوجة جديدة من إضرابات آلاف العاملين، وكان الرابط المشترك بينها أنه دائماً ما يكون في الخلفية هناك لواء ما، عسكري متقاعد يدير المكان ويحنق عليه من فيه بسبب غياب سافر للعدل، فينتفضون ضده. خرجت تلك الهوجة الأخيرة بالأساس من المصانع الحربية - والتي كما نعرف يوظفها العسكر الآن لإنتاج سلع استهلاكية، ومن قناة السويس بموانيها وشركاتها - والتي يهيمن على المناصب الإدارية العليا فيها عسكر.
كشف ذلك المشهد حقيقة صارخة لم نكن نلتفت لها من قبل، وهي أن أكبر الإضرابات "الفئوية" طوال عام ما بعد الثورة خرجت في الحقيقة ضد لواءات الجيش المنتشرين انتشاراً أخطبوطياً في مواقع السلطة في البلد، خرجت في منشآت اقتصادية يمتلكها العسكر أو مواقع مدنية يتولون إدارتها. وكان رد الفعل على تلك الاحتجاجات التي استهدفت طبقة الجنرالات المديرين قاسية لا هوادة فيها، وتم اختراع مصطلح عجلة الإنتاج واتهام المحتجين بتعطيلها.
وفجأة اتضح الآن أنها كانت في الواقع عجلة العسكر وليس عربة الوطن! كان ستالين معروفاً بشنبه الكبير الضخم الذي نادراً ما ربى زعيم آخر في تاريخ العالم الحديث شنباً مثله، وانعكس ذلك على سياساته الدموية القاسية في ضبط المجتمع السوفيتي والمواطنين الكادحين فيه. باسم التصنيع السريع ولأجل هدم الرأسمالية، قام نظام ستالين بحشد الملايين في معسكرات عمل جبري بمليمات قليلة، لا تسمح لهم بامتلاك سوى قطعة أو قطعتين من الملابس.
في العام والحياة على كوبونات الطعام من الحكومة. ومن لم يُطع النظام كان يُنفى ويُلقى في غياهب السجون أو يتم إعدامه الفوري. لذلك عُرف حكم ستالين بفترة الرعب العظيم.
توجد علاقة وطيدة بين شنب ستالين وعجلة العسكر، وهذا ما سوف أحاول إثباته بالأدلة في تلك المقالة.
تبنت النخبة العسكرية في مصر في الخمسينيات والستينيات النمط السوفيتي في إدارة الاقتصاد. باسم الوطنية والتحرر من الاستعمار، تحملت "قوى الشعب العامل" الكثير من الفقر والزهد وعدم الحرية، في حين كان على المواطن المصري أن يرضى سعيداً بالأجر الضئيل والحرمان من الديمقراطية لأجل بناء الوطن المستقل، نمت ثروات ضباط الجيش القابضين على مقاليد اقتصاد البلد، وسرعان ما تحولوا لطبقة عليا أرستقراطية جديدة حلت محل النخبة الملكية البائدة وجلست في مقاعدها.
الكثير من قادة القوات المسلحة في موقع السلطة اليوم جاءوا إلينا من تلك الحقبة، وتلقوا تعليمهم في الاتحاد السوفيتي أو تتلمذوا على يد من تعلم هناك.
ومنذ أن انفردوا بالحكم بعد الثورة، يبدو أن البعض منهم يستلهم ستالين كقدوة ويقوم بإحياء موروثه القمعي في إدارة شؤون البلاد.
كما ذكرت بأعلى، أغلب الإضرابات والاعتصامات الكبرى التي انخرط فيها عشرات الآلاف بعد الثورة كانت في الحقيقة موجهة ضد طبقة لواءات الجيش المديرين في مواقع مدنية والمنتشرين عبر الجمهورية. ولهذا السبب تصاعدت نبرات تشويه صورة المضربين واتهامهم بعدم الوطنية، وقامت الشرطة العسكرية بضرب الكثير منهم، ثم أصدر المجلس العسكري قانون تجريم الاعتصامات والإضرابات الذي أحال العديد منهم لمحاكم عسكرية تلقوا بها عقوبات صارمة بالسجن. سوف ننظر فيما يلي على بعض الأمثلة البارزة والتي حدثت طوال الأربعة عشر شهراً الأخيرة.
يعين العسكر أنفسهم بمناصب عليا في الكثير من القطاعات المدنية المربحة، ومنها مثلاً قطاع البترول والموانئ البحرية وقناة السويس بموانئها وشركاتها. وشهدت تلك القطاعات عينها احتجاجات مستمرة ضد تدني الأجور والفساد لم تتوقف حتى اليوم.
في شهر فبراير من عام الثورة الماضي، قام ألفان عامل ومهندس في قطاع البترول بالاحتجاج ليس فقط على ظروفهم السيئة ولكن أيضاً على عسكرة الوظائف بالقطاع. رفضوا أن يتولى ضباط الجيش المتقاعدون إدارتهم متقاضين آلاف الجنيهات كرواتب، في حين يتقاضى هم ملاليم مقارنة بهم. وفي الشهر التالي انضم لهؤلاء آلاف من العاملين ضد اللواءات الكبار في القطاع نفسه في شركات مثل بتروتريد وبتروجيت. كان رد فعل العسكر على هؤلاء قاسياً، حيث اختطفت الشرطة العسكرية عددا من المعتصمين، وقُدموا للمحكمة العسكرية وحكم عليهم بالحبس. وبرغم ذلك، في تحدٍ سافر للعسكر، عاد المحتجون للاعتصام مرة أخرى منذ أسابيع قليلة أمام مجلس الشعب، معتقدين أن البرلمان المنتخب قد ينقذهم من براثن الجنرالات، لكن لم يسمع لهم فيه أحد.
أما عن قناة السويس، ويرأسها الفريق أحمد فاضل ويدير كل ميناء وشركة تابعة لها على خط البحر الأحمر كله تقريباً لواءات متقاعدون، فحدث ولا حرج. هوجة تتبعها هوجة من الاحتجاج على خط القناة لأسباب متنوعة كلها تتعلق بالظلم، طوال العام الماضي وحتى اللحظة الراهنة ليومنا هذا، حتى قام المحتجون ذات مرة بقطع طريق القطار لنيل حقوقهم. قامت هيئة قناة السويس بتحويل بعض العمال للنيابة العسكرية وحبس بعضهم عسكرياً لإرهاب الآخرين، ولكن لايبدو تلك أن العقوبات تردعهم أو أنهم سيتوقفون! نسمع أن دخل الهيئة كل عام يصل لمليارات الدولارات ويزيد، فأين تذهب مادام من يعمل فيها طوال الوقت يشعر بالغبن وفي حالة غضب دائم؟.
من بواكير الموجات الكاسحة للإضرابات ما خرج من الهيئة العربية للتصنيع، ويرأسها اللواء حمدي وهيبة. بدأت مبكراً في شهر فبراير لعام الثورة، حيث اعتصم ١٥٠٠ عامل بالهيئة مطالبين بتحسين أجورهم ولم يستجب لهم أحد، فعاودوا الاعتصام في شهر أغسطس وانضم لهم بقية الـ 16 ألفا اللي شغالين في الهيئة، وفي الشهر التالي تم وقف قادة من طالبوا بإصلاح الهيئة عن العمل!.
وفوق كل ذلك، انتفض عشرات الآلاف من العاملين في المصانع الحربية، وهي طبقاً لتصريحات وزير الإنتاج الحربي السابق اللواء سيد مشعل 40٪ من إنتاجها سلعا مدنية مدرة للربح مثل الأجهزة والأدوات المنزلية، وليست سلعا قتالية ثقيلة كما هو متوقع منها. أضرب عمال مصانع 63 و9 و200 حربي في العام الماضي، وتم إحياء تلك الإضرابات مؤخراً في الأسبوع الماضي عندما خرج خمسة آلاف محتج في مصنعي ٤٥ و٩٩ حربي، وانضم لهم المحتجون في مصنع مهمات بالغربية. الشكوى الدائمة لكل هؤلاء هو أنهم لا يتقاضون أجوراً أو حوافز تكفى نفقات الحياة الشاقة، ويشكون من فساد مديريهم، ويجأرون من إحالتهم لمحاكم عسكرية عند المطالبة بحقوقهم.
لا تدوم الأشنبة لأحد، بالرغم من أن ستالين استمر في حكمه بالرعب أكثر من ثلاثين عاماً، وبمجرد موته تم تجريم سياساته ومحو اسمه من الأماكن وتحرير الغلابة من معسكرات العمل الجبري، كل قمع وله نهاية، وكلما استحكمت حلقاتها فُرجت..حتُفرج يا مصر.