الإرهاب الفكري موجود في كل المجتمعات، وإن كان بنسب متفاوتة, فهو ظاهرة عالمية, غير أنه ينتشر في المجتمعات الأكثر انغلاقا ذات الثقافة المؤدلجة والشمولية, ويتجسد في ممارسة الضغط أو العنف, أو الاضطهاد ضد أصحاب الرأي المغاير, أفرادا كانوا أو جماعات, وأحيانا يصل إلى حد القتل والتصفية الجسدية, مثلما حدث مع الدكتور فرج فودة قبل سنوات, وفي واقعنا العربي تحول الإرهاب الفكري إلى أداة للبطش بالوعي وبالفكر وبالذاكرة وبالحكم, تماما مثل الإرهاب الدموي الذي يبطش بالجسد والتاريخ والذاكرة, وما نراه مجسدا الآن فيما يسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش».
الإرهاب الفكري يعطل حركة الفكر والإبداع ويوسع مساحة الثغرات ويخالف منهج القرآن الكريم, فما جاء في القرآن الكريم والروايات الشريفة يدلل على وجوب أن يعمل الإنسان فكره وعقله وألا يقف في حدود الظواهر والمعلومات, قال الإمام الحسن، رضي الله عنه: «أوصيكم بتقوى الله وإدامة التفكر؛ فإن التفكر أبو كل خير وأمة», وقال الإمام الصادق: «تفكر ساعة خير من عبادة سنة», ولو تعمقنا في الفكر الديني لوجدناه ليس خارج دائرة التفكير وإنما هو في عمقها.
الإرهاب الفكري هو الذي يقمع كل قول يخالف سلطته الدينية أو ينازع قوته السياسية, وهو الأسلوب نفسه الذي يمارس تسفيه وتحقير كل رأي لا يوافق هوى آبائه أو لا يناسب ذوق أجداده, وهو أيضا الأسلوب الذي يغتصب العقول قسرا ويرغمها على موافقة عقله وتأييد رأيه.
إن الدول التي صنعت الإرهاب وجعلت منه سهما مسموما مشهرا ضد أعدائها المفترضين وتستخدمه في الوقت المناسب- تكتوي بناره الآن, وهي تحشد الحشود وتجيش الجيوش لمحاربته, لأنه ببساطة طالها في عقر دارها, ولا تستطيع السيطرة عليه, فقد تمرد عليها وخرج عن طوعها, أصبح «داعش» هو العنوان العريض للإرهاب بجميع مستوياته، وكما قال الأستاذ محمد حسنين هيكل في حواره مع سي بي سي: «إذا نوقشت قضية الإرهاب دائماً تكون محصورة في منطقتنا؛ فنحن المتهم والقاضي، ونحن القاتل ونحن المقتول، ونحن حبل المشنقة ونحن رأس المشنوق, لكنني أعتقد أنه يكاد يكون في كل هذه المؤتمرات نوع من المحاكمة على ما يجري في الشرق الأوسط، وأنا أعتقد أن هذا وضع غير مسبوق».
«داعش» يتمدد ويفرض سيطرته على مدن ومناطق شديدة الحيوية فى العراق وسوريا, يمارس الفوضى والعنف والإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد الأقليات الدينية, يذبح ويقتل ويختطف على مرأى ومسمع العالم كله, الذي كان يراقب في صمت إلى أن مسه الضر فخرج عن صمته وأصبح يبحث عن حلول تقضي على هذا الكائن الشيطاني الذي خرج عن كل الأعراف والأخلاقيات الإنسانية, وانحرف عن المسار المرسوم له تحت زعم تطبيق الشريعة الإسلامية, فمشاهد الذبح للمدنيين حركت الضمائر النائمة والمتواطئة بحثا عن مخرج بأقل الخسائر.
الولايات المتحدة الأمريكية الحليف القوي للإرهاب تحشد قواتها العسكرية الآن لمحاربته, وهي على أهبة الاستعداد للنيل والانتقام من «داعش» بعدما وفرت حلفا من 40 دولة, والسعودية وافقت على تدريب المعارضة السورية المسلحة المعتدلة, رغم أنها ضالعة في استنهاض شيطان «داعش» من مرقده في سوريا بعد دعمها لجبهة النصرة المناوئة لحكم بشار الأسد، وتكاد تكون من صنيعتها, غير أن أخطر ما ينتظر هذا التحالف برئاسة أمريكا هو الخلاف بين بعض الدول مثل إيران والفصائل الشيعية التي هددت بالانسحاب من الحرب على «داعش» إذا ما تدخلت أمريكا عسكريا في العراق, بالإضافة إلى انضمام العشرات من المتطوعين إلى صفوف «داعش» فور إعلان الولايات المتحدة خوضها الحرب ضد التنظيم, الأمر الذي سيعقد المشكلة ويزيد من تفاقمها في المستقبل القريب.
إن التغلب على انقلاب الإرهاب من أفكار شديدة التطرف إلى أفعال أشد تطرفا- هو المعركة الحقيقية التي تنتظر المنطقة العربية الملتهبة بالخلافات والمشتعلة بالحروب, وهو الاختبار الأكثر وضوحا على قدرة الصف العربي على الانحياز نحو هدف موحد جامع, في مرحلة دقيقة وحساسة ساد فيها الالتباس على نصوع الحقيقة والتشكيك على اليقين.