كنت أراها جيئة وذهاباً يومياً هذه اللافتة التى تعلو مقر الحزب الوطنى الديمقراطى على كورنيش النيل، مجموعة من الأطفال تعلو وجوههم ابتسامة مشرقة وعبارة (عشان تطمن على مستقبل ولادك)، وكنت أردد دائماً بقية الجملة فى ذهنى (حيث إن مستقبلك أنت ضاع خلاص) وأضحك لكنه كان ضحكاً كالبكا، كانت هذه اللوحة ربما الأخيرة من لوحات الدعاية للحزب الوطنى، وجوه إعلانية مختارة بعناية لا تمثل أطفالاً مصريين عاديين لكنها ضمن مفردات الحزب، فى نطاق تزييف الواقع المُر الذى كنا نعيشه كمواطنين، أحياناً فى صورة وأحياناً فى أغنية تقطر كذباً وأحياناً فى أوبريت سنوى يدعو إلى الشفقة فنياً وإبداعياً.
وعلى مبنى الحزب أيضاً كان شعار الحزب الذى تحول مع عوامل الزمن والتجريف إلى ما يشبه المقشة أو المكنسة مع ما كان يحمله هذا الشكل من معنى وما يشير إليه من قلة قيمة.
واحترق المبنى الرئيسى، كما امتدت النيران لبعض مقار الحزب فى أماكن ومحافظات أخرى، ومعظمها قصور قديمة وفيلات رائعة كانت ملكاً لأصحابها، فتم وضع اليد عليها منذ التنظيمات الأولى لثورة يوليو واحتلالها بالحزب الحكومى الواحد، بداية من هيئة التحرير مروراً بالاتحاد الاشتراكى وحزب مصر الوطنى، واعتبر الحزب الحاكم الواحد، أيا كانت تسميته، هذه المقار التى تزايدت وتضاعفت عبر السنين، ملكاً خالصا له دون أى أحد آخر، ولا أنسى زيارة لى منذ نحو شهرين لمدينة الإسماعيلية، حيث صادفنى فى طرقاتها مبنى قديم فى غاية الروعة تحيطه حديقة واسعة وهو على الطراز المميز للمبانى الخشبية فرنسية وإنجليزية الطابع، والتى كانت تخص مرشدى قناة السويس وإدارتها الأجنبية منذ نشأة القناة، وإذ بى أصطدم بلوحة عليها الحزب الوطنى الذى استولى عليه كأحد مقاره، وعلمت أن هذا المبنى الأثرى هو المقر الأول لإدارة القناة، وبجواره مباشرة يقع بيت فرديناند دليسيبس، هذا الجمال المعمارى الأثرى وقع فريسة فى يد الحزب الوطنى بدلاً من أن يكون متحفاً لتاريخ القناة.
أفاق الحزب الوطنى الآن بعد لطمة ثورة الخامس والعشرين من يناير، ليعلن بكل بجاحة أنه موجود وقائم ومالك شرعى لكل مقاره فى كل أنحاء الجمهورية، وأن أوضاعه بالنسبة لجميع مقاره سليمة قانوناً، كما أن أمانته تملك مبالغ كبيرة تضمن تجديد مقار الحزب التى تعرضت للتلف، هكذا تتحدث فلول حزب تصورنا
أنه آن له أن يرحل وترحل ذكراه من الحياة المصرية جراء الفساد والإفساد الذى مارسه فى مصر وبقسوة على مدى ثلاثين عاماً عجافاً، لكن أن تستمر أمواله ومقاره على انتشارها واتساعها فى حوزته وتكون فى خدمة إعادة تنظيم صفوفه استعداداً للتسلل إلى الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة والتسرب إلى الكيانات الجديدة، فهذا ما لن يُقبل شعبياً أو ثورياً على الإطلاق، ووجود مئات المقار الرئيسية والفرعية للحزب فى جميع أنحاء مصر دون التحفظ عليها لحين عودتها إلى الدولة أو إلى مالكيها الأصليين، الذين تمت سرقتها منهم، أمر خطير سيسهم فى سهولة اجتماع وتجميع بقايا كوادره ومريديه والمستفيدين القدامى من عطاياه، خاصة بعد أن تبين لجوؤهم إلى مناورات عبر الـ«فيس بوك» للتسلل إلى شباب ثورة الخامس والعشرين من يناير، تحت مسميات وهمية جديدة وعبر أكاذيب تستهدف التقدم إلى صفوف الصورة والادعاء بأنهم فصيل منها، وأعتقد أن حرمان الحزب الوطنى من مقاره المنهوبة هو خطوة واجبة الآن ويجب أن تكون سريعة.