x

أحمد الجمال المياه الجوفية الاجتماعية أحمد الجمال الثلاثاء 09-09-2014 22:04


كان الباشوات والبكوات والأفندية، من الوفد والأحرار الدستوريين، مشغولين بمصير الدستور والعلاقة مع بريطانيا، وكيف ومتى يعود الجيش لثكناته، ليتسلموا هم البلاد ويديروا دفة الحكم.. وكيف لا وهم كبار الملاك الزراعيين والعقاريين، وهم من تصدر مجالس النواب والشيوخ وترأس الوزارة، وفيهم صاحب الدولة وصاحب العزة! وكان شيوعيون ومن مصر الفتاة ومن شرائح نخبوية أخرى مشغولين، بما إذا كان الذى جرى انقلاب عسكرى أم ثورة وهل هو ثورة وطنية ديمقراطية وبورجوازية صغيرة أم هى نواة رأسمالية الدولة الاحتكارية؟!.. وكان الإخوان يدبرون كيف سيلتهمون الكعكة وحدهم.

كان الجميع تقريبا مشغولين ومنخرطين فى التكتلات والتحالفات والمناورات، ورغم خطورة ما جرى إلا أنهم لم يستطيعوا كبح جماح خلافاتهم القديمة ومنافساتهم الضيقة، فكان منهم من يرفض الديمقراطية نكاية فى الوفد، وكان منهم من لايزال على موقفه من أن استمرار الوجود البريطانى فيه مصلحة للأمة، ولم يلتفت كثيرون إلى الجانب الآخر من الصورة، أو إلى ما أفضل تسميته «بالمياه الجوفية الاجتماعية والسياسية».. لا يراها أحد ولكنها تجرى وتندفع وتتجمع تحت الأرض، حتى إذا ما توفر الظرف انفجرت عيونا وربما نوافير مغرقة!

وفى ظنى أن جمال عبدالناصر كان يراقب، إن لم يكن قد دبر وبارك، ذلك الانشغال والاشتباك بين تلك الأطراف، ومضى فى الاتجاه الذى أراده وهو العدل الاجتماعى، وكانت الضربة الكبرى بما حدث فى 9 سبتمبر 1952 عندما أصدر قانون الإصلاح الزراعى الأول بتحديد ملكية الأرض الزراعية بما لا يتجاوز مائتى فدان.. وكان الرجل قد مهد لتلك الضربة بمقدمة يبدو أن أحدا لم يلتفت إليها ولم يفكر فى أنها بداية سياق تاريخى ستتداعى مراحله دون توقف، وكانت تلك المقدمة هى القانون الذى صدر فى أغسطس 1952 بتحديد ساعات العمل وتحديد الحد الأدنى للأجور بخمسة وعشرين قرشا!

كان ذلك قبل اثنين وستين عاما، ولا بأس الآن ولا قبل ذلك أن تتعدد وجهات النظر والقراءات والتحليلات والمواقف تجاه الإصلاح الزراعى، وكيف ضاعف من تفتيت الملكية الزراعية بما أثر على القدرة الإنتاجية، وأنه لخبط المنظومة الاجتماعية فى تراتبها الطبقى وفى قيمها إلى آخره، ولكن الذى لا أظن الاختلاف عليه هو تلك النقلة الاجتماعية والثقافية، بالمعنى الأوسع للثقافة، التى حدثت فى الريف المصرى، وأذكر هنا أن المهندس صلاح دياب أشار فى مناقشة له معى حول ذلك وفى معرض انتقاد الرؤى الناصرية الحالية، إلى أن الناصريين يغفلون قيمة ما حدث للفلاح المصرى وكيف انتهى وللأبد الوضع الذى عاناه مع كبار الملاك وفى المعادلة ككل، وبحيث بات مستحيلا على أى من كان أن يتسلط اجتماعيا على الفلاحين الأجراء وصغار الحائزين للأرض الزراعية والمستأجرين لها.

إننى لست بصدد التقييم التاريخى الشامل لما جرى، فهذا مكانه قاعات البحث ورسائل الماجستير والدكتوراه والندوات المتخصصة، وإنما أحاول لفت الانتباه إلى المياه الجوفية الاجتماعية والثقافية التى تشكلت مساراتها فى مصر الآن، وأراقب كيف أن كل القشرة السياسية مشغولة بالقضايا نفسها:

الانقلاب والثورة، دور العسكريين فى الحياة السياسية، شكل نظام الحكم ومدى وفاء الدستور بما هو مطلوب، التعاون مع الأمريكان والتهدئة مع إسرائيل ورفض الاتجاه شرقا نحو روسيا والصين، دور الرأسمالية فى إعادة بناء البلد وأداء دورها الحضارى الثقافى المفترض، التحالفات والائتلافات والتنسيقات بين الفرقاء وغير الفرقاء، إلى آخر ما نعايشه شئنا أم أبينا، وعندئذ يفرض التساؤل نفسه: هل نحن بصدد انفجار للمياه الجوفية، وهل هناك من سيحاول تلافى الانفجار بالتوجه نحو العمق الاجتماعى وتلمس ما يريده والاستجابة له ولو بالتدرج وبنسب وجرعات منظمة محدودة؟!

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية