أعلنت قيادة الثورة فى يناير 1953، مع سقوط دستور 1923، عن تشكيل لجنة من خمسين عضواً لإعداد مشروع دستور جديد، ثم أصدرت القيادة فى فبراير 1953 دستوراً مؤقتاً ليجرى به العمل ثلاث سنوات هى فترة الانتقال التى حددتها الثورة ولم يُكتب لمشروع لجنة الخمسين أن يولد، إنما سقط جنيناً، بينما تضمن الدستور المؤقت من المبادئ ما اطردت مراعاته، وشكل أسس التنظيم السياسى للدولة فى عهد الثورة.
كانت لجنة الخمسين تتألف من عناصرتمثل الغالب الأعم من الاتجاهات السياسية والحزبية القائمة فى ذلك الوقت، كان منهم ثلاثة من أعضاء لجنة دستور 1923 (ومن هؤلاء على ماهر رئيس اللجنة الجديدة)، وفيهم أربعة من كبار رجال الوفد، واثنان من الأحرار الدستوريين، واثنان من السعديين، وثلاثة من الإخوان المسلمين، واثنان من الحزب الوطنى الجديد (فتحى رضوان) ورئيس حزب الكتلة الوفدية، وعضو من مصر الفتاة (الحزب الاشتراكى)، وفيهم أيضاً عناصر غير حزبية بحكم مناصبهم أو خبراتهم القانونية أو السياسية، مثل رؤساء محكمة النقض ومجلس الدولة والمحكمة العليا الشرعية، وثلاثة من رجال الجيش والشرطة، وبعض أساتذة القانون الدستورى والساسة المستقلين، وعدد من رجال الاقتصاد والشخصيات العامة، ويتخلل هؤلاء جميعاً ستة من وجوه الأقباط.
ومع أن قيادة الثورة هى من اختار هذه العناصر جميعها، فلم يشارك فى ترشيح الأسماء للجنة حزب ولا هيئة ينتمى إليها العضو، إلا أن الظروف السياسية التى اختير فيها الأعضاء، فى ذلك الوقت المبكر من قيام الثورة ومن الوجود الحزبى النشيط نسبياً، هذه الظروف أوجبت على القيادة أن تختار مرشحين لهم وضعهم البارز فى هيئاتهم، وإن كانوا من العناصر المعارضة للثورة أو ممن لا يرجى منهم الممالأة لها ومن هنا يصدق تمثيلهم للتيارات السياسية وللهيئات التى وفدوا منها.
وقد جرت اللجنة فى عملها على قدر من التراخى الكبير، فلم تنجز مسودة المشروع إلا بعد عام ونصف العام من تشكيلها، وهما ذاتهما العام ونصف العام اللذان انحسم فيهما الصراع السياسى لصالح قيادة الثورة ضد الحركة الحزبية عامة.
إطلاق الحريات العامة
تبنى مشروع لجنة الخمسين مبدأ «الجمهورية البرلمانية»، ثم أورد المواد الخاصة بالحريات العامة وضمانات الأفراد، فأطلق هذه الحريات والضمانات ولم يقيدها إلا فى حالات مخصوصة، كالقبض فى حالة التلبس، وشرط لذلك سماح القانون وإذن القاضى دون أن يخول السلطة التنفيذية وحدها أمراً ما، وبالنسبة للحريات الجماعية، أطلق المشروع حرية الصحافة والطباعة ومنع تقييدهما بأى قيد ومنع فرض الرقابة عليهما، وحظر إنذار الصحف أو وقفها أو إلغاءها أو مصادرتها بالطريق الإدارى (المادة 26)،
وأباح حرية الاجتماع ومنع الشرطة حضور الاجتماعات، ولم يجز الإخطار مقدماً عن الاجتماعات إلا بالنسبة للاجتماعات العامة، ولم يقيد الاجتماعات العامة إلا بأن تكون لغرض سلمى ودون حمل السلاح وألا تتنافى مع الآداب، وأباح المواكب والمظاهرات فى حدود القانون (المادة 29)، وأباح تأليف الجمعيات والأحزاب دون سابق إخطار أو استئذان، ما دامت الغايات والوسائل سلمية، وشرط للقانون الذى يصدر بتنظيم الأحزاب أن تجرى أحكامه على أسس ديمقراطية دستورية وعلى أساس الشورى وحرية الرأى، وأن تكون الأحزاب بعيدة عن النفوذ الأجنبى، وخص المحكمة الدستورية بالفصل فى كل ما يتعلق بهذه الأوضاع من منازعات (المادة 30).
السلطة المنفردة للأمة
وبالنسبة لسلطات الحكم، تبنى المشروع الأسس العامة لدستور 1923، مع تنقيحها بما يؤكد السلطة المنفردة للأمة وللجهاز النيابى على أجهزة الحكم، أى استبعاد أى إمكانية دستورية لقيام قطب دستورى يناوئ سلطة الأمة (كما كان الوضع الدستورى للملك فى نظام 1923)، وشكل البرلمان من مجلسين للنواب والشيوخ أولهما يتكون من 270 عضواً ينتخبون كل أربع سنوات بالاقتراع العام السرى المباشر من مرشحين لا تقل سن أحدهم عن ثلاثين سنة، ولا يحل المجلس مرتين لسبب واحد، وإذا حل ولم تجر انتخابات المجلس الجديد فى ستين يوماً، عاد المجلس المنحل للانعقاد بقوة الدستور فى اليوم التالى (المادة 56)،
وهذا الحكم الأخير يعالج وجهاً خطيراً من وجوه سوء التطبيق فى عهد الدستور السابق، والمجلس الثانى هو مجلس الشيوخ الذى يتكون من 150 عضواً، ثلاثة أخماسهم تنتخب بالاقتراع السرى العام المباشر، والخمس الرابع تنتخبه النقابات والغرف والجمعيات، والخمس الأخير يعينه رئيس الجمهورية (كان دستور 1923 يخول الملك تعيين الخُمسين جميعاً).
ورئيس الجمهورية رئيس برلمانى وليس رئاسياً، تختاره هيئة تتشكل من أعضاء البرلمان وبعض الهيئات المحلية لخمس سنوات لا تتكرر أكثر من مرة واحدة، وللرئيس أن يحل مجلس النواب، ولكن بشرط أن يترتب على حل المجلس سقوط الوزارة تلقائياً وبحكم الدستور، وأن يشكل رئيس مجلس الشيوخ وزارة محايدة تجرى الانتخابات، ثم يعود إلى منصبه فور انتهاء هذه المهمة، وتطرح الثقة بالوزارة الجديدة أمام المجلس الجديد (المادة 103)، وهذا الحكم يعالج أيضاً سوء استخدام رئيس الدولة (الملك فى دستور 1923) سلطته فى حل مجلس النواب حسبما أسفرت عنه تجربة الدستور الملغى،
ثم إن رئيس الجمهورية لا يملك سلطة منفردة قط، وهو يتولى جميع سلطاته بواسطة وزرائه، وتوقيعاته لا تنفذ إلا أن يوقع معه رئيس الوزراء والوزير المختص، وهو لا يستقل بأمر إلا أن يولى رئيس الوزراء (وهذا الأمر محكوم بثقة مجلس النواب واستمرارها)، وإلا أن يعين خُمس أعضاء مجلس الشيوخ، والوزارة هى من يهيمن على مصالح الدولة وتوجيه السياسة العامة، ومسؤوليتها تضامنية أمام مجلس النواب، وهى خاضعة للمساءلة أمام المجلس ولطرح الثقة فيها أو فى أحد وزرائها.
وبالنسبة للسلطة القضائية، أكد المشروع استقلالها ودعمه بالاستقلال التنظيمى لها فى إدارة شؤونها، ونظم المجلس الأعلى للقضاء بتشكيل، عين أعضاءه تفصيلاً من رؤساء الهيئة القضائية بحكم وظائفهم (المادة 116) ومنع تولى القاضى الوزارة قبل مضى عام على تركه منصبه القضائى، وسد ثغرة خضوع النيابة العامة للسلطة التنفيذية، بأن جعل النائب العام منتدباً من مستشارى محكمة النقض، وأوجب أن يتولى التحقيق فى الجنايات وجرائم السياسة والرأى والصحافة قضاة، كما خول السلطة القضائية الإشراف على رجال الضبط القضائى، وجعل لمجلس الدولة ولاية عامة فى المنازعات الإدارية، وشكل للمجلس مجلساً يدير شؤونه، ثم أوجد المشروع محكمة عليا دستورية تتألف من تسعة أعضاء، ثلثهم يختاره رئيس الجمهورية، وثلثهم يختاره البرلمان وثلثهم تختاره السلطة القضائية (المواد 187 ــ 193).
نخبة العصر الليبرالى
ويبدو من هذا العرض، أن هيمن على مشروع لجنة الخمسين جملة من الاعتبارات الاجتماعية والتاريخية والسياسية، أتت بالمشروع وفق منزع ليبرالى صرف، بلغ عدد الوزراء السابقين فى اللجنة نسبة قد تجاوز الثلث من مجموع أعضائها، وبلغ عدد كبار ذوى المناصب ورؤساء الهيئات السابقين والحاليين نسبة تجاوز الثلث الآخر من تشكيلها، فكان ما يصل إلى الثلاثة أرباع فيها من عناصر النخبة الحاكمة قبل 23 يوليو 1952، ولم يمثل فيها من عناصر من تسميهم هذه الدراسة وأحزاب التيارات السياسية الجديدة إلا ستة، ثلاثة من الإخوان المسلمين واثنان من الحزب الوطنى الجديد وواحد لمصر الفتاة، ولم تمثل الطليعة الوفدية ولا الحركة الشيوعية بأحد، ويكاد الباشوات السابقون يصل عددهم بها إلى الثلث، والغالبية الغالبة تصل إلى الخمسين من العمر، وفيهم كثير يجاوز الستين.
ومن ثم فإن تمثيل اللجنة للتيارات الحزبية والسياسية الجديدة (غير تيارات نخبة الحكم السابقة) كان تمثيلاً ليس مرجوحاً فقط، ولكنه جد محدود.. كان غالب أهل النخبة القديمة فيها من العناصر الوطنية والديمقراطية، ولكن تفكيرهم ومثلهم السياسية وأهدافهم الوطنية والديمقراطية كانت محدودة بالنظرة الوطنية الليبرالية لسنوات العشرينيات ولمثل نظام 1923،
لذلك جاء تصورهم لأبنية المشروع أشبه ما تكون تنقيحاً لدستور 1923 فى إطار أبنيته ومؤسساته وقواه السياسية والاجتماعية، أشبه بذلك من أن تكون استشرافاً لما كانت تستشرفه نظرة الأحزاب الجديدة، من حيث موجبات الاستقلال الاقتصادى والعدالة الاجتماعية والاستقلال الحضارى، سواء بنظرة التيار الإسلامى أو بنظرة التيارات المتأثرة بالفكر الاشتراكى، أو بالنظرة الوطنية التى تدخل فى حسابها المطالب المتممة للأهداف الوطنية التقليدية.
انقلاب وليس ثورة
ووجه كون المشروع مجرد تنقيح لدستور 1923 الملغى، أنه وضع صياغات رفيعة المستوى حقاً، تضمن للبرلمان أن يكون مؤسسة الحكم الرئيسية التى تدور حولها كل سلطات الدولة، وأنه سدّ الثغرات التى نفذ منها الملك إلى مجمل مؤسسات دستور 1923، ووقف فى وجه أى محاولة لرئيس الدولة للتغلب على سلطات الأمة ممثلة فى مجلس النواب، ولكن المشروع أغفل فى كل ذلك ما ترتب على قيام ثورة 23 يوليو وخلع الملك،
من اختلال ضخم فى موازين القوى السياسية السابقة على قيام الثورة، ومن تغير نوعى كبير بين رئاسة الدولة الملكية وبين رئاسة الدولة بعد إلغاء الملكية، ووقف المشروع عند حدود أن ما حدث فى 23 يوليو كان مجرد حركة انقلابية فى قمة السلطة أزاحت الملك وتركت مطرحه فراغاً سياسياً، وأريد بالمشروع الجديد أن يملأ هذا المطرح، لا بالقوى الاجتماعية والسياسية التى أزاحت الملك وخلفته، ولكن بالقوى التى تصارعت مع الملك قبل الثورة فى إطار نخبة الحكم القديمة وقوى ثورة 1919 التى صاغت الدستور الملغى.
ورغم وجود عدد من الإخوان المسلمين فى اللجنة، لا نلحظ فى مشروع الدستور أى ريح لهذا التيار، سواء فى رسم أبنية الحكم أو فى الصياغات النظرية لنسق الحقوق والواجبات السياسية المنعكسة فى أحكام المشروع، أو حتى فى المصطلح القانونى والفقهى الذى يجرى به التعبير عن تلك الأحكام، ورغم وجود بعض العناصر القريبة من نداءات العدالة الاجتماعية حسبما ترددت فى الأربعينيات، لا يكاد المشروع يحمل ظلاً لهذه النداءات ولا أثراً، لا من حيث المبادئ العامة التى قام عليها ولا من حيث صياغته للأطر والهياكل ولنظام الحقوق.
إقصاء رجال الثورة
ومن ناحية أخرى، فنحن نلمح فى مشروع لجنة الخمسين أن القوى السياسية التى شاركت فى وضعه قد وضعته على صوة لا تدع لرجال حركة 23 يوليو دوراً يؤدونه فى أبنية الحكم الدستورية، لا بوصفهم قيادة لهذه الحركة، ولا بمراعاة المؤسسة التى انحدروا منها وهيمنوا على مقاليد الأمور، وهى الجيش وما كان لرجال الثورة ولا لمؤسستهم أن تقوم بدور فى جهاز الدولة الدستورى، إلا من خلال رئاسة الجمهورية وارتباط الجيش بها، ولكن المشروع حرص تلافياً لهذا الدور أو تجاهلاً له أن يجعل رئاسة الجمهورية رئاسة برلمانية، تختار من هيئات، على رأسها وأقواها المجلس النيابى،
كما حرص على ألا تتولى مسؤولية ما فى تقرير السياسات وتنفيذها، وانحصر ما نيط بالرئيس من سلطة يستخدمها منفرداً، فى تعيين خمس أعضاء مجلس الشيوخ، وهو الملجس الأدنى من حيث السلطة البرلمانية، وثلث أعضاء المحكمة الدستورية، وحرص المشروع على عزل الجيش عن رئاسة الجمهورية وربطه بوزارة البرلمان وحدها، كما جعل القوة السياسية الدافعة لمؤسسات الدستور كلها هى الحركة الحزبية، وليست أى قوة سياسية تولدت فى إطار جهاز الدولة ومؤسساته، وشرط فى تعيين رئيس الجمهورية بلوغ سنه الخامسة والأربعين، مما لم يكن بلغه إلا محمد نجيب من رجال حركة الثورة، وذلك فى ظروف ظهور بوادر الخلاف بينه وبين الضباط الأحرار.
ومن كل ذلك يظهر أن واضعى المشروع قد استهدفوا بصنيعهم إقصاء رجال 23 يوليو من أن يكون لهم وجه من وجوه المشاركة فى السلطة من بعد، كما استهدفوا إبعاد المؤسسة العسكرية من أن يكون لها دور فى العملية السياسية، ووجه الملاحظة هنا لا يأتى من الصواب النظرى لهذا المسلك ولا من مدى صوابه بحسبانه هدفاً سياسياً يبتغى، ولكن وجه الملاحظة أن المشروع بهذا الصنيع غفل عن خريطة القوى السياسية القائمة وموازين السياسة الدائرة، وهو فى هذا لم يغفل فقط عن عناصر أو أفراد هيمنت على السلطة، ولكنه غفل عن إدراك أن المؤسسة العسكرية وجهاز الدولة عامة قد ترابطت أوصالهم مع هذه القيادة الجديدة، فصاروا معاً لا يكونون قوة اجتماعية واحدة فحسب، بل صاروا يكونون بناء تنظيمياً متماسكاً، أو بتعبير أدق كانت تنمو حركة الترابط الاجتماعى والتنظيمى هذه، فى الفترة ذاتها التى كان يعد فيها مشروع الدستور.
نظام أحادى القطبين
لقد عملت لجنة الخمسين على أن يتحول نظام الحكم فى تصورها من نظام تتنازعه مؤسستان دستوريتان، هما رئاسة الدولة، ملكاً كانت أو رئيس جمهورية، والهيئة النيابية (كما كان الحال فى دستور 1923)، إلى نظام يدور على محور واحد هو المجلس النيابى، وللحركات السياسية والحزبية أن تتنافس على شغل هذا الموقع، ولكن ما أن تشغله قوة منها حتى تضمن دوران المؤسسات الدستورية كلها حوله وبطاقة دافعة تصدر عنه، ومن المجلس النيابى تتشكل الوزارة وتصدر القوانين التى تطبقها المحاكم، ومن الوزارة الخاضعة للمجلس تجرى الهيمنة على أجهزة الإدارة والتنفيذ والشرطة والجيش والأمن عامة.
وقد كان ممكناً لهذه الصيغة التحقق العملى، لو أن الحركة الحزبية بتنظيماتها كلها أو بعضها، كانت هى من أطاح بالطرف الآخر المتمثل فى الملك وما يحوطه من قوى المجتمع والسياسة، ولكن الحاصل أن تلك الحركة التى مهدت بجهادها الدؤوب متطاول المدى لتغيير الأوضاع السياسية على ما نفذ فى 23 يوليو، لم تكن هى من قام بالثورة من الناحية التنظيمية، وما كان لها أن تحتل دور القيادة فى الواقع الجديد إلا بصراع جديد مع القائمين بحركة 23 يوليو 1952، والذين بدأوا يتوحدون مع جهاز الإدارة المهيمن ليكونوا معاً قوة سياسية اجتماعية حاكمة، ولكن لجنة الخمسين لم تفطن إلى حصيلة حسابات الأوضاع الراهنة.
لقد غلب على واضعى دستور 1923 (لجنة الثلاثين) أنهم كانوا من خصوم الوفد الذى قام بثورة 1919 وقادها تنظيمياً، ولكنهم كانوا من البصر السياسى بحيث لم يسدوا أمام تلك القوة الجديدة منافذ الولوج إلى أبنية الحكم الدستورية، أو احتمال الولوج إليها بحيز يتسع أو يضيق، وذلك حرصاً منهم على أن يتاح لدستورهم مكنة الوجود الواقعى فى التطبيق، بعدم تجاهل قوة سياسية صار لها أثرها غير المنكور، وذلك رغم أن الوفد لم يكن تولى حكماً ولا سلطة بعد، ولا سيطر على أى من مفاتيح قوة التنفيذ، هذا البصر بحقائق الواقع لم يتح لواضعى مشروع لجنة الخمسين، لذلك أجهض مشروعهم جنيناً، رغم ما تضمن من الصياغات الدستورية والفنية رفيعة المستوى.
وهنا ترد ملاحظة مهمة، هى أن قيادة ثورة 23 يوليو هى من شكل لجنة الدستور واختار أسماء المشاركين فيها، وإذا كانت ضغوط الواقع السياسى فى ذلك الوقت المبكر من قيام الثورة فى يناير 1953، قد فرض عليها بعض هذه الخيارات، قل هذا البعض أو كثر، فإن هذه الضغوط لا تفسر غلبة عناصر النخبة القديمة على تشكيل اللجنة، ولا هذا التمثيل شديد الضعف لعناصر «التيارات والأحزاب الجديدة»،
ثم هو ضغط لا يفسر ألبتة كيف نأت قيادة الثورة بنفسها أو بواسطة من يمثلونها عن المشاركة فى أعمال اللجنة والإسهام فى صياغة نظام الحكم المقبل.. قد يتراءى السبب فى أنه حتى يناير 1953 لم يكن رجال الثورة قد ظهروا ظهوراً سافراً بأنفسهم على المسرح المرئى لأحداث السياسة، وأنه لم يكن ترابطت لهم الأواصر مع من يعتبرون ممثلين لهم فى هذا الصعيد، ولكن هذا السبب لا يصلح سنداً على مدى العامين التاليين، إلا أن يكون تشكيل اللجنة غير محمول على سابق التصميم بإنجاز ما يسفر عنه عملها، أو أن يكون جد للقيادة من بعد ما أهملت به أمر اللجنة، وتفرغت لما تصنعه هى من بعد، فى إطار ما يطرحه الواقع من بدائل للأفعال. وردودها.
■ ■ ■
لقد كان مما يجاوز النظرة الواقعية أن يتبنى الضباط نمطاً دستورياً للحكم جردهم من السيطرة على مكمن القوة السياسية الرئيسى فى أيديهم، وهو الجهاز الإدارى للدولة والجيش الذى انبثقت حركتهم منه وسيطروا عليه، كما كان مما يجاوز هذه النظرة أن يقيموا نظاماً يعتمد فى قواه الدافعة على الحركة الحزبية، وأن يفرض ذلك عليهم الدخول فى التنافس الحزبى بتنظيم لم يملكوه، فلا هم أنشأوه من قبل ولا أتقنوا وسائل العمل به، وإذا كان نفى النقيض لا يؤدى بالضرورة إلى انتصار نقيضه، بل قد يفضى إلى نفى هذا النقيض ذاته، فإن إلغاء النظام الملكى، وضرب ما يتحلق حوله من القوى الاجتماعية والسياسية، قد صاحبه إلغاء النقيض التاريخى والدستورى فى الظروف المصرية لنظام 1923، وهو الحركة الحزبية والمجلس النيابى، وقام محلهما نظام تشكلت ملامحه التنظيمية ورسخت سماته العامة، مع استقرار نظام 23 يوليو وطريقته فى التصدى والاستجابة لما يواجه الوطن من التحديات السياسية والاجتماعية.
■ عن كتاب «الديمقراطية ونظام 23 يوليو/ 1952 - 1970» مؤسسة الأبحاث العربية - بيروت 1987