يستخدم الإنجليز تعبير «البطاطس الساخنة»، للإشارة إلى القضايا أو المشاكل التى يصعب حلها، فينتهى بها الأمر مع المسؤولين، يتقاذفونها بالأيدى، دون أن يجرؤ أحد على الإمساك بها أو التعامل معها. حالة ماسبيرو ساخنة، ولأسباب تتعلق بثقافتنا وبالعدد الكبير من عربات الباعة الجائلين التى تنتشر حول مبنى التليفزيون، سيكون استخدام تشبيه «البطاطا المشوية»، أقرب إلينا من بطاطس الإنجليز!
ماسبيرو فى بؤرة الضوء مرة أخرى مع تجدد الحديث عن إعادة هيكلته. فالجهاز المتضخم مدين بـ ٢٢ مليار جنيه، ويضم ثلاثة وعشرين قناة تليفزيونية، وميزانيته تئن تحت بند الرواتب الذى يلتهم ٨٠ فى المئة منها فى كل شهر، تتوزع على نحو أربعة وأربعين ألف موظف، غالبيتهم من الإداريين ورجال الأمن!
السؤال الذى يطرح نفسه فى هذا الظرف هو: فى إطار تاريخ حافل بالخسائر المالية والفشل الإدارى، لماذا يبدو ماسبيرو كمشكلة ملحة الآن بالذات؟!
لا توجد إجابة قاطعة، ولكن ربما تكون هناك إضاءات تسهم فى رسم صورة للمشهد. واحد منها أن ماسبيرو، وعلى مدى تاريخه، لعب دورا فاعلا فى الترويج للسلطة وحكوماتها ورجالها، من خلال مسؤولين استخدموه بفاعلية كأداة للترويج السياسى. وهو دور تضاءلت بجواره مشاكل المؤسسة التى كانت تحقق الفائدة المرجوة منها والمرسومة لها.
يكمل الصورة أن وصول إدارة الرئيس السيسى إلى موقعها واكب تدنى معدلات انتشار التليفزيون المصرى، وانخفاض تأثيره، فيما التهمت فضائيات رجال الأعمال حصته من المشاهدة والإعلانات. كان واضحا منذ البداية أن الرئيس لا يرى لتليفزيون الدولة التى يجلس على قمة هرمها التنفيذى قيمة يمكن حسابها بالموجب. انعكس هذا على تعامله مع التليفزيون أثناء حملته الانتخابية. إذ أجرى الرئيس وقتها عددا من اللقاءات التليفزيونية المهمة، تحاور معه فيها ثلاثة عشر مذيعا، كانوا جميعا وبدون استثناء ممثلين لمحطات رجال الأعمال. ورغم أنه وجد سعة من الوقت ليلتقى مع مذيعة من قناة غير مصرية هى سكاى نيوز الإماراتية، إلا أن الرئيس لم يقدم حوارا واحدا لجمهور تليفزيون الدولة فى هذا الوقت وحتى الآن. وعندما التقى مع ممثلين عن الإعلاميين المصريين، لم يدع إلى لقائه أرفع المسؤولين الموجودين على قمة هرم ماسبيرو.
من الصعب معرفة مدى صحة ما يقال من أن الخبرات السيئة لبعض المحيطين بالرئيس من مسؤولى ملف الإعلام، إبان عملهم فى ماسبيرو، قد أثرت على موقفه هو من تليفزيون الدولة ومسؤوليه. إلا أن الواضح أن الرئاسة لم تستشعر لماسبيرو أهمية أو فاعلية أو قدرة على خدمة الأهداف التى تراها، وأن الزاوية الرئيسية التى قامت بتقييمه منها، هى زاوية استنزافه لموارد الدولة فحسب.
محطات تليفزيون رجال الأعمال مكون مهم من المشهد، ومن المتوقع، بل من الطبيعى، أن تستخدم من قبل مالكيها فى دعم مصالحهم وأهدافهم طالما كانت مشروعة. لكن المصلحة العامة تقتضى تأسيس منظومة متوازنة، يلعب فيها الإعلام العام دوره فى التوعية والامتاع ومناقشة قضايا قد يتردد الإعلام الخاص فى طرحها. رعاية منظومة كهذه، والنظر إلى صالح الجمهور فى عمومه، يقتضى أن تعمل أجهزة الدولة التنفيذية على دعم منصات الإعلام العام، لتصبح أداة فعالة فى إعادة بناء الشخصية المصرية على أسس علمية وموضوعية حديثة، دون أن يعنى هذا بالمناسبة، قتل الإعلام العام، بتحويله إلى أداة من أدوات التوجيه المعنوى أو الترويج السياسى.
القناتان الأجنبيتان الأكثر حضورا فى الوعى العام، سواء فى الشارع أو بين النخب، هما قناتا الجزيرة وبى بى سى. الأولى، رغم التحفظات الكثيرة على الدور السياسى الذى بدأت تلعبه مؤخرا، امتد تأثيرها خارج حدود دولتها الصغيرة لتصبح عنصرا مؤثرا فى سياسات المنطقة. والثانية كانت دوما المثل القياسى الذى يضرب للإعلام العام Public Service Broadcasting. وكشاهد على إطلاق الجزيرة فى شهورها الأولى، وعلى التجربتين التليفزيونيتين العربيتين من بى بى سى، إضافة إلى مسؤوليتى عن منظومة المؤسسة الكاملة من راديو وإنترنت وتليفزيون حتى وقت قريب، يمكننى أن أقول، إن هناك درسا يمكن اعتباره من تجربة كلتا المحطتين: القطرية والبريطانية.
وبصرف النظر عن التحول المؤسف لقناة الجزيرة العربية، إلى طرف سياسى مباشر فى أزمات المنطقة، إلا أن الواقع يقول إنها نجحت فى خدمة أهداف أصحابها، وانتشرت وأثرت بشكل فاق كل التوقعات. باختصار، الإرادة السياسية هى العامل الأول، والأهم فى إصلاح منظومة الإعلام العام، وخدمة الجمهور المستهدف.
أما الدرس الذى يمكن الاستفادة به من تجربة بى بى سى، فهو استنادها إلى رؤية ذات محاور ثلاثة: نقل المعلومة، و«تربية» الجمهور، وإمتاعه. أو كما كنا نقول دائما بالإنجليزية: Inform، Educate and Entertain.
بطاطا ماسبيرو مشوية وملتهبة، وهى اليوم أكثر سخونة عما كانت عليه قبلا. لا نعرف ما إذا كان تقاذفها سيستمر، أم أنها ستستقر فى النهاية فى يد تتعامل معها بما يليق بتاريخها والمأمول منها. لكن مهما كانت النوايا، فمن الضرورى ألا ينتهى الأمر بتقطيعها، أو التهامها، على أى وجه كان من الوجوه!
مذيع ومستشار إعلامى، ورئيس بى بى سى العربية سابقا