نجيب محفوظ- الله يرحمه- كان يرغب، في كل رواية جديدة، أن يَجمع الكَون بين ضفتي الكتاب، وطموحه هذا لم يكن يتوقف، من سرد لمسار الحياة اليومية المصرية في ثلاثية القاهرة، لعقود طَويلة من عمر الحارات في ملحمة الحرافيش، لقصة الخلق والكون في أولاد حارتنا، وصولاً لملاعبته التراث والخيال كُله في ليالي ألف ليلة، لم تَكن الغاية بأقل من شيءٍ بوسعِ العالم.
في المقابل، فإن إبراهيم أصلان- الله يرحمه أيضاً- امتلك مشروعاً مُعاكساً، يتعلق بأكثر الأشياء عادية في الحيوات اليومية للناس، كحركتهم من غرفة النوم إلى المطبخ مثلاً، أو صعودهم بكوب الشاي من الكافيتريا إلى غرفة مكتبهم، كان يَطوي العالم الأكبر في تفاصيلِ البشر الصغرى، وكلما تَصغر التفاصيل تزداد دقتها، فنصل لوسع العالم من طريق مغاير.
ربما أدرك نجيب هذا، مبكراً جداً، ولذلك فقد وصف«أصلان»، حين قدمه إلى توفيق الحكيم لأولِ مرة قائلاً: «يا توفيق بك، إنت عارف إن فيه جيل جديد من الكتاب، وهذا الجيل فيه كتاب منهم في المقدمة، وآخرون في مقدمة هذه المقدمة، والأخ إبراهيم من هؤلاء».
وإبراهيم ابتسم خجلاً، وشكر للأستاذ، الذي كان حينها في ذروة عُنفوانه الأدبي، على الاهتمام به وبجيله. والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فاهتمام نجيب وصل إلى كتابة تزكية إلى وزارة الثقافة، يدعم فيها اسم «أصلان» لمنحة تفرغ من أجلِ كتابة الرواية، بدلاً من عمله في ورديات ليلية مسائية- منحته لاحقاً متتالية قصصة عالية القيمة- في وزارة المواصلات.
و«أصلان» الذي لم يفكر يوماً في كتابة الرواية، اضطر، لأن المنحة كانت لكتابة رواية وليس قصصٌ قصيرة، أن يَكتب روايته الأولى، التي سماها «مالك الحزين»، والرواية نَجحت، وصارت فيلماً، والفيلم نجح وأمسى واحداً من أهم منجزات السينما العربية، وبمد الخط على استقامته فإن كل شيء قد بدأ من عند نجيب، ولذلك فقد ظل «أصلان» يسمّيه، حتى آخر حياته، بالعم نَجيب، ويَقول أنه يعنيها، فهو «العم»، الذي كان سنداً لسنوات طويلة.
وحين مات نجيب، كتب عنه «أصلان» أحد أجمل الرثاءات التي كُتِبَت يوماً، تصوّر فيه، سبحان الله، أن «الناس، هنا، على أرصفة المدن، في المقاهي والمدارس، في أقسام الشرطة وأحواش البيوت وباحات المصانع والمزارع والملاعب والسجون، في حواري القرى والنجوع والدساكر والكفور، تصورتهم، وقد راح كل منهم يشد على يد الآخر معزياً في رحيل الرجل الذي كان، لفرط المقام، على الأقل، صار على صلة قربى بكل واحد منهم، والذي، في الآخر، عرّف العالم بأنقى ما فيهم، وأفضل ما فيهم، وجعلهم جزءً من ضمير الدنيا الثقافي».
وإبراهيم أصلان مات، بعدها بسنوات قليلة، لم يعزِ الناس بعضهم في رحيل نجيب كما تصوّر، كما لم يأخذ أحد عزاءه، حتى الكيت كات وإمبابة وورديات الليل في مَصلحة البريد، وما تبقى كان الخِطاب، والحكاية، والرواية، والرثاء، ما تبقى هو ما قيل مرة عن أن «أمرك لا ينتهي أبداً مادام لديك قصة تسردها، وشخص يصغى إليها»، كما كتَبَ في آخر رثائه لنجيب، وما دامت القصص باقية.. فالوصلِ لا ينقطع.