x

أحمد الدريني الفارق بين رسالة جيمس فولي.. ورسالة معتقل في سجن العقرب أحمد الدريني الأربعاء 27-08-2014 21:48


حين نشرت أسرة الصحفي الأمريكي المذبوح جيمس فولي، آخر رسائله التي بعث بها عبر أحد زملائه في الأسر الذي نال حريته قبل وقت قريب..لفتني فيها «تمسك» فولي و«استمتاعه» بالحياة حتى وهو سجينٌ لدى داعش.

قرأت قبل ذلك عشرات الرسائل لمعتقلين من جميع التيارات تقريبا، بموجب عملي، وزياراتي المتعددة للسجون.

ومثلت كل هذه الرسائل أمام عيني وأنا أقرأ رسالة فولي الأخيرة، وبدا لي التناقض جليا بين كوادر إسلامية وجهادية خار عزمها في السجن وتهاوت روحها المعنوية، وشاب أمريكي مرح، استغل كل لحظة في الحياة حتى النهاية.

يحكي فولي في رسالته الأخيرة، كيف قضى 18 أجنبيا مخطوفا وقتهم في زنزانة واحدة، يتحكم فيها تنظيم داعش الوحشي.

هل انهاروا وبكوا وندبوا حظهم في الدنيا؟

(2)

كانت رسائل المعتقلين الإسلاميين التي قرأتها في عهد مبارك، عبارة عن محاضر انهيار نفسي، وتفريغات لكل أدعية المظلومين والظلم الواردة في الديانات الثلاث كانوا حطاما نفسيا تذروه الرياح..

أما فولي ورفاقه الـ17 فقد قسموا أوقاتهم..

كل يوم نقاشات حول الأفلام والكتب والرياضات المفضلة.. كل يوم محاضرات يلقيها شخص ما من الـ18 في مجال معرفته..كل يوم لعب..كل يوم جلسات دعم نفسي لبعضهم البعض!

حين تقرأ الرسالة، ستندهش كيف تعايش 18 معتقلا، حياتهم مهددة، مع لحظاتهم الأخيرة وكيف حولوها من جحيم لا يطاق إلى أكبر نادي ترفيه وتسلية يمكن أن يعايشوه؟

كل شخص يعرض أفكاره وقراءاته.. كل شخص يلقي محاضرة ويبتكر لعبة..كل شخص يتفاعل مع الآخرين، في فهم دقيق لصعوبة اللحظة التي يعايشونها..

يقول فولي إنهم بطريقة ما تمكنوا من لعب الشطرنج داخل الزنزانة.

(3)

صديقي الإسلامي كان يقول لي دوما: الإخوان يمكنهم الصمود في السجن طويلا، أكثر من السلفيين بكثير، لأن الإخوان حين يدخلون الزنازين يوزعون المهام فيما بينهم..هذا يطبخ وهذا ينظف وهذا بالليل يلقي الشعر أو ينظم عرضا مسرحيا مع بعض «الإخوة»..لقد أكسبتهم سنوات الاعتقال الطوال خبرة واسعة في التعامل مع هذا الظرف المعقد.

أما السلفيين، فيتلاومون بينهم : «لماذا تركت اسمي لديك مدونا في مفكرتك يا أخ فلان؟ لقد قبضوا علي بسببك سامحك الله..»..«لماذا دعوتني للدرس الفلاني يومها يا أخ فلان؟ لقد قبضوا علي وأنا خارج من المسجد حينها..سامحك الله!»..

ويتحول الحبس معهم لساحة من النكد الأصيل.. ونوبة متجددة من الغم الخالص.

تعرض الإسلاميون عموما لشتى أنواع التنكيل الممكن وغير الممكن في سجون مبارك. وربما خبالهم وفجرهم اليوم، انتقام بأثر رجعي من الهوان الذي تعرضوا له تعذيبا وتعرية واغتصابا وتنكيلا في الأرض.

لا أزايد على معتقلي التيارات الإسلامية في العهود السابقة وأصفهم بالجبن أو الخوار، فقد تعرضوا لما لا يطاق، ولا يدري الواحد كيف ستكون ردود أفعاله أو خطاباته بعد هذا السحق البشع لكرامته وإنسانيته وجسده.

لكن رسالة فولي لأسرته، كانت تقول إن هناك طريقتين للعيش..طريقة خاصة بنا نحن الذين خلقنا الله في هذه البقعة من الأرض في شرق أوسطكوكبه، وطريقة يعيش بها الناس في العالم الأول.

هم يدركون أن العمر قصير، ويحاولون الاستمتاع به والاستفادة منه والصمود خلاله والتحايل على آلامه..لذلك يلبعون في الزنزانة ويلقون محاضرات على بعضهم البعض..ويتحدثون عن نواديهم الرياضية المفضلة..

أما نحن، فلسبب ما اخترنا النكد أسلوبا للحياة، واخترنا الانكسار أقرب الطرق للانتحار طويل الأمد.

ربما لا يمكن إخضاع كلامي لمنطق علمي صلد، غير أن المفارقات الملحوظة التي تتوشج الأحداث الكبرى، لا تحتاج عادة لإثباتات صارمة بمقدار ما تحتاج لاستشعارها على نحو مرهف.

(4)

انحازُ لجيمس فولي الصحفي الذي راح ضحيته نقله الحقيقة، وراح ضحية مجرم ملثم قاتل، أزهق روحا بغير حق، وحطم من خلفها قلب أسرة كاملة رأت ابنها ذبيحا مفصولة رأسه عن جسمه في مشهد لا تضاهيه بشاعة أبدا.

انحازُ لجيمس فولي..ولقيمة الحياة..لقيمة استغلال كل لحظة والاستفادة منها والاستمتاع بها..انحاز للمعرفة وللتعاضد والتآخي الإنساني غير المشروط..

أما نحن، إسلاميينا وغير إسلاميينا، إرهابيينا وغير إرهابيينا، فمحتجزون في دوامة كبيرة من النكد والتلاوم والغبن والظلم، وليس أمامنا من سبيل سوى الترصد لبعضنا البعض.

ننقسم ونزداد انقساما وتتفلت الحياة من بين أيدينا ولا نعيشها..نحيا فيها كأنا موتى سير الله أبدانهم من دون أرواح!

السلام عليك يا جيمس فولي وعلى لحظاتك الأخيرة..نم في سلام أنت أنبل من قاتلك.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية