تزايدت دعوات الأمن الذاتي وتشكيل لجان شعبية مسلحة لمواجهة احتمال أي تسلل لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» إلى الأراضي اللبنانية، بل أن هذه الدعوات يبدو أنها قريبة من التحول إلى واقع فقد تسربت معلومات عن بلدات مسيحية وعلوية في شمال لبنان ذي الغالبية السنية شكلت ما يشبه اللجان الشعبية لهذا الهدف .
ووفقا لهذه المعلومات فقد نظام أهالي بلدات وقرى في الكورة وأعالي منطقة الضنية بشمال لبنان حراسات ليلية لتجنب تغلغل مسلحين متطرفين قد يتسللون في أيّ لحظة إثر انتشار شائعات في مناطق بشمال لبنان عديدة عن احتمال قيام مجموعات تكفيرية بشنّ هجمات على قرى شمالية للسيطرة عليها ومن ثمّ أخذ سكانها رهائن للإمساك بشمال لبنان قاعدة لتأسيس إمارة «داعشية» على غرار ما يحصل في العراق.
ويعد شمال لبنان (وخاصة إقليم عكار) أكثر المناطق فقرا في البلاد، كما أنه ذو غالبية سنية كبيرة، ويوجد به عدد كبير من اللاجئين السوريين إذ يبلغ عددهم وفقا لإحصاء الأمم المتحدة 285 ألف لاجئ يشكلون 25 % من اللاجئين السوريين في لبنان، مما يجعله في رأي الكثيرين حاضنة محتملة للتطرف.
وقد أثارت هذه الأنباء استفزاز بعض التيارات السنية مثل الجماعة الإسلامية في لبنان (الإخوان المسلمين) التي اعتبرت الاثنين «قيام مجموعات من أبناء قرى ومدن لبنانية ومنها الشمال بأمن ذاتي سواء بالتعاون مع البلديات أو الأحزاب النافذة في هذه المناطق والقرى والمدن، سيساهم بطريقة أو بأخرى في شرعنة الأمن الذاتي من قبل الأهالي بحجة تخوفهم من تمدد المجموعات المسلحة المتواجدة في سوريا كتنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة.
وحذر المسؤول السياسي لـ«الجماعة الإسلامية اللبنانية» في طرابلس وشمال لبنان حسن الخيال في بيان صحفي من أن هذا السلوك سيساهم في دفع المكونات اللبنانية الأخرى بقيامهم بأمن ذاتي مقابل وهذا أمر مرفوض حيث أن الشرعية الوحيدة يجب أن تكون للقوى الأمنية اللبنانية.
وتصاعدت دعوات من قبل بعض رجال الدين المسيحيين بضرورة التسلح لمواجهة احتمالات توغل التنظيمات المتطرفة وخاصة داعش في لبنان خاصة بعد السيطرة على عرسال من قبل النصرة وداعش، بعد أن أثارت المشاهد والأنباء القادمة من العراق المخاوف التاريخية للطوائف المسيحية وكل الطوائف اللبنانية التي لجأت إلى جبل لبنان منذ مئات السنيين طلبا للأمن والاستقلال وهروبا من أي اضطهاد أو تمييز.
ويبدو أن كل الحوادث التاريخية للاضطهاد التي شجعت الأقليات على التحصن بجبال لبنان الوعرة، لم تقترب يوما في بشاعتها مما تفعله داعش التي تسعى إلى ما يشبه الإبادة الجماعية للأقليات أو تغيير عقائدها وهو ما أمر نادر في تاريخ الشرق العربي الذي لم يعرف محاكم التفتيش أو عمليات الإبادة الجماعية مثلما حدث في أوروبا أو فعل أهلها بسكان الأمريكتين وعرب الأندلس.
وقوبلت دعوات التسلح والأمن الذاتي بالرفض من قبل السياسيين اللبنانيين، الذين أعلنوا جميعا تمسكهم بالدولة وأجهزتها وجيشها الذي يمثل رمز وحدة البلاد.
ولكن بين السطور وعلى أرض الواقع يبدو أن هناك أمورا مختلفة، حيث أن سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية أكد على مرجعية الدولة وقدرة الجيش اللبناني على حماية البلاد، والحفاظ عليها، ولكن جعجع عاد واستدرك قائلا: اطمئن المسيحيين ألا يقلقلوا من داعش وغيرها، مذكرا أنهم نجحوا تاريخيا في مواجهة مجموعات مسلحة عديدة (مثل الفلسطينيين والسوريين ) قائلا «نحن لم ولن نخاف يوماً».
ورغم تأكيده بأن الحلّ يكون ببناء دولة قوية وليس بتأسيس مجموعات مسلّحة عسكرية في كل منطقة من لبنان«.. إلا أنه عاد وقال إنهم قاوموا في السابق منظمات وجيوش غريبة مراراً وتكراراً أكبر ممّا يُسمى تنظيم»داعش«، وحققنا الانتصار، وقال: لم نستسلم أبداً باعتبار أن هذا المنطق التخويفي لم ولن يسري علينا يوماً.»
وأعاد جعجع التذكير بروح التمرد التي تحلّى بها الأجداد وكلّ الأجيال السابقة، داعياً إلى «وجوب الحفاظ على هذه الروح حتى لا يُصيبنا ما يُصيب شعوب الشرق الأوسط.
الدروز من جانبهم، كانوا أول الأقليات التي سكنوا جبل لبنان، وكانت رغبتهم في الحفاظ على سرية عقيدتهم واستمرار الطائفة وتجنب الاضطهاد هاجسا جعلهم يفضلون الجبال ويغيرون تحالفاتهم لضمان استمرار الطائفة، وكانوا في الأغلب الأذكى في اختيار الحليف، وأميل إلى التحالف مع السلطة الإسلامية في الشرق عكس الموارنة الأكثر تمردا عليها وأكثر شخوصا بأعينهم نحو الغرب.
زعيم دروز لبنان وليد جنبلاط بخليفته أسرته التاريخية انتبه أسرع من غيره للخطر الداعشي، وسارع للدعوة للمصالحة وقام بجولة على قيادات الطوائف اللبنانية فالتقي العماد ميشال عون على ما بينهما من تنافر، وسليمان فرنجية زعيم مسيحيي الشمال على ما بينهما من شقة في الجغرافيا والسياسة.. كما أكد أن الوقت قد تخطى لوم حزب الله على التدخل في سوريا، فيما يؤشر إلى تراجعه عن انتقاد الحزب لهذا السبب واقتناعه إلى وجاهة مبررات الحزب، رغم استمرار عداء جنبلاط للنظام السوري الذي يتهم أحيانا بالوقوف وراء اغتيال والده كمال جنبلاط، ولكن النظام السوري بممارساته أقل خطرا من ممارسات داعش المغولية .
جنبلاط يؤكد بدوره، على مرجعية الدولة وحصرية دورها في الأمن، ولكن الزعيم الدرزي وئام وهاب رئيس حزب «التوحيد العربي» وأحد أقرب السياسيين الدروز لسوريا أكد استعداد «الجبل (جبل الدروز) لحمل السلاح دعماً للجيش والقوى الأمنية وحماية للدولة والسلم الأهلي».
أما الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله فلم يتحدث بشكل مباشر عن الأمن الذاتي في مواجهة «داعش»، ولكنه طالب بمصالحات في المناطق اللبنانية المختلفة، كما أكد أنهم لن يهاجروا في مواجهة هذا الخطر بل سيحاربون ويدفنون في أرضهم .
وبينما يؤكد الجميع في العلن على حصرية مهمة حفظ الأمن في يد الجيش اللبناني وقوى الأمن وضرورة دعمه، فإن الحوارات البعيدة عن الإعلام بات محورها الأمن الذاتي بين متخوف من تحولها إلى ميليشيات متقاتلة وبين من يرى أنها السبيل الوحيد في مواجهة المخاطر الموجودة في المنطقة في ظل المخاوف من زحف المسلحين في سوريا ووجود ما يقرب من مليون نصف نازح سوري والضعف التقليدي للجيش اللبناني.. مثلما قال قيادي قومي سني كبير قريب من قوى 8 آذار لوكالة أنباء الشرق الأوسط، معتبرا أن الحل في تشكيل لجان شعبية بالتنسيق مع الجيش وقوى الأمن وتحت إشراف الدولة والزعماء السياسيين.
ولكن المشكلة تبدو أكبر لدى سنة لبنان، الذين كانوا متمسكين دوما بالدولة، سواء في العهود الإسلامية حتى نهاية العهد العثماني وصولا للعصر الحديث، وتبدو الطائفة السنية الأقل خبرة في قضية الأمن الذاتي، وفي الوقت ذاته هي الطائفة التي يمكن أن يخرج من أطرافها عناصر معززة لداعش وأخواتها، فهي قد تكون أكبر ضحية لأي انهيار في الأمن في لبنان.. كما أن أبناء يشكلون نحو نصف الجيش اللبناني.. ويخشى أن بعضا من هذه العناصر التي يأتي أغلبها من الشمال اللبناني الفقير يمكن أن تجد أفكار داعش الطائفية صدى لها لديها.. رغم تأكيد الجيش أن حالة الانشقاق التي حدثت كانت فردية تماما.
إن الأمن الذاتي كان دوما جزءا من ثقافة وتاريخ لبنان، حيث كان الجبل بتعقيده الجغرافي مانعا لإقامة الدولة القوية، مقابل تعزيز استقلالية العشائر والطوائف، فكان لبنان كما قال الزعيم التاريخي كمال جنبلاط لبنان، فيدرالية الطوائف.
وفي مواجهة خطر داعش وأخواتها وغياب رئيس للبلاد منذ مايو الماضي واحتمالات الفراغ في كل مجالات السلطة والمناكفات السياسية والحساسيات الطائفية، يبدو لبنان بين خيارين محاولة بناء دولة قوية أو استعادة فيدرالية الطوائف.