تساءلت فى مقالى الأسبوع الماضى عما إذا كانت عبارة «تجديد الخطاب الدينى»، التى لا يمل الكثيرون فى مصر من تكرارها، تكفى لمواجهة ما نحن بصدده الآن من كارثة انتشار قوى مُتطرفة مجنونة بأفكارها الشاذة وقواها الغاشمة فى مواقع شتى بالوطن العربى كله، من محيطه إلى خليجه. بادئ ذى بدء فإنه ليس من المبالغة القول بأن أصل الداء والدواء هو فى مصر التى تقع فى القلب لهذا الوطن.. فعلى أرضها نشأت أقدم جامعة على ظهر الأرض، ارتبط اسمها بالجامع الأزهر الشريف لتكون الهيئة الإسلامية الأساسية التى تتخرج فيها العقول التى يُفترض أن تحافظ على دين الله القويم وتتدارس نصوصه وتراثه بالعقل، وتدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وتُطور فى فهم نصوصه بما يتفق مع تطور الفكر الإنسانى بما يجعله ديناً صالحاً لكل زمان ومكان.. وعلى أرضها أيضاً خرجت دعوات وجماعات من خارج هذه المؤسسة، ربما يكون أشهرها فى العصر الحديث جماعة حسن البنا وإخوانه، والتى خرجت من عباءتها عشرات الجماعات والتنظيمات التى عاثت فى الدنيا كلها إرهاباً وإفساداً وتشويهاً للدين الإسلامى الحنيف. إن القيادة المصرية الحالية عليها واجب لا مهرب منه ورسالة لابد من القيام بها حتى تحفظ للدين الإسلامى مكانه ومكانته فى العالم، وتتصدى للفكر المتطرف المتخلف بتجفيف منابعه وتمام اليقظة تجاه تجاره..
وإننى أتوجه باقتراحات محددة إلى السيد رئيس الجمهورية المسؤول الأول عن السلطة التنفيذية والتشريعية فى الوقت الحالى تشمل:
(1) إلغاء قانون تطوير الأزهر الذى صدر فى عهد الزعيم عبدالناصر فى ستينيات القرن الماضى لأسباب معينة أصبحت غير موجودة الآن، خاصة بعد ثورة الاتصالات التى شهدها العالم فى العقدين الماضيين.. وأعنى بهذا أن تعود جامعة الأزهر إلى سابق عهدها ودورها الذى استمر لما يقرب من ألف عام، كجامعة متخصصة فى علوم الشريعة وأصول الدين واللغة العربية والترجمة، وأن ينسلخ منها جميع الكليات التى تُدرس العلوم المدنية العلمية والنظرية، لتجمعها جامعة جديدة تحت اسم يتم اختياره بعيدا عن المسميات الدينية، ويكون الالتحاق بها لكل الطلبة حاملى الثانوية العامة فقط، على أن تتبع المجلس الأعلى للجامعات وتلتزم بقوانينه.. ويعلم كل ولى أمر يُلحق أولاده بالمعاهد الأزهرية أن مآلهم هو التعليم الدينى فى كليات جامعة الأزهر الأربع فقط.
(2) تشكيل لجنة تضم بالإضافة إلى أساتذة الأزهر الثُقاة مجموعة من أساتذة العلوم الاجتماعية والتربية وكبار المفكرين المحترمين لمراجعة المناهج المقررة على طلبة المعاهد الأزهرية بما يتفق مع ما عرفته البشرية من تقدم مذهل فى مختلف فروع المعرفة فى القرنين الأخيرين، وحذف كل ما من شأنه إذكاء الفتنة والتمييز بين عناصر الأمة، أو تغييب العقل وترهيبه بادعاء نفر من ذوى العقول المتحجرة بالدفاع عما يعتقدونه هم من أصول وثوابت.
(3) التصدى لثقافة تديين الدولة التى يقودها نفرُ من تجار الدين منذ أربعة عقود، بالاهتمام اليقظ بكل ما يقدمه الإعلام من رسائل دينية، وضرورة عدم السماح مطلقاً بإعادة بث القنوات الدينية التى خربت أكثر مما أصلحت، ومراجعة ما تقدمه إذاعة القرآن الكريم وإعادة النظر فى أمر القائمين عليها الذين يرفضون حتى الآن بث أى نوع من الموسيقى أو حتى التواشيح الدينية، بدعوى أن الموسيقى حرام، وفى هذا المجال فإننى أتعجب من التغيير الذى حدث فى القنوات الرسمية للتليفزيون المصرى بعد الثورة وحتى الآن بنقل شعائر صلاة الجمعة على القناتين الأرضيتين الأساسيتين وليس على القناة الأولى وحدها كما كان هو الحال منذ إنشاء التليفزيون، دون أدنى اعتبار لحقيقة أن فى هذا الوطن شركاء غير مسلمين، وهذا لا يحدث حتى فى تليفزيون المملكة العربية السعودية.
(4) إعادة النظر فى مناهج التربية الدينية بمدارس مرحلة التعليم الأساسى، وحذف كل ما يُفرق بين عنصرى الأمة، وأن تجمع نصف الحصص المُخصصة لهذه المادة كل طلبة الفصل، مسلمين ومسيحيين، للحديث معهم عن أخلاقيات التعامل بين البشر وغرس القيم النبيلة المُستوحاة من الكتب السماوية فى نفوسهم، م
ع ضرورة إعادة تقييم المعلمين والمعلمات والتعامل بحزم مع كل من يروج لأفكار متطرفة أو يدعو إلى التمييز بين المسلمين وغيرهم، مع حظر إجبار الطالبات على ارتداء زى معين بغية التمييز ليس إلا كما يحدث فى العديد من المدارس الآن، هذه على الأقل أربعة إجراءات عملية يمكن أن يدور النقاش حولها، تمهد الطريق لتغيير حقيقى وجذرى على أرض مصر، يمكن أن يكون له تأثيره الأوسع على المنطقة بأسرها لمواجهة كارثة الأفكار الظلامية لداعش وأخواتها التى عبثت بالفعل بعقول الملايين على امتداد الوطن العربى من أقصاه إلى أقصاه، وأساءت لدين الإسلام كما لم يستطع أعدى أعدائه.