شبهه أحد علماء جامعة كامبريدج البريطانية بأنه نظير أينشتاين، الذي يفكر خارج حدود الممكن والمحتمل، كان منهجه التخلي عن المسلمات والقواعد الثابتة وضرب عرض الحائط بكل الكتب الاسترشادية، وإطلاق العنان للأفكار لا تقيدها حواجز أو عراقيل، إنه جيفري بايك الذي جعل شغله الشاغل في ذروة اندلاع الحرب العالمية الثانية التوصل لحيلة يهزم بها جيش هتلر، فجاءته فكرة إنشاء حاملة طائرات من الجليد تهزم ترسانة هتلر، وتجبر جيش النازي على رفع الراية البيضاء.
في تقريرها عن قصة واحدة من أقوى أفكار الحرب المضادة نقلت صحيفة «ديلي ميل» البريطانية تفاصيل واحدة من أخطر أفكار الحرب المنسوبة إلى جيفري بايك، ذلك الصحفي الإنجليزي الذي كان عمره 45 في ذروة اندلاع الحرب العالمية الثانية.
ولد في 9 نوفمبر 1893، لأب عمل بمهنة القانون، ولكنه تركه وحيدًا وهو في سن الخامسة، وفارق الحياة، تاركًا لزوجته إرثًا من الصراعات مع عائلته لأجل الحصول على مستحقاتها المالية، وللطفل الصغير حياة بائسة منذ باكورتها، ولكن أمه نجحت في إلحاقه بإحدى المدارس العامة التي كانت مخصصة لأبناء رجال القوات المسلحة، ثم التحق بعدها بجامعة كامبريدج حيث درس القانون، ولكنه بمجرد اندلاع الحرب العالمية الأولى تخلى عن دراسته وتطوع ليصبح مراسلًا عسكريًا، وأقنع رئيس تحرير صحيفة «ديلي كرونيكل»، بأن يرسله إلى برلين لتغطية الأحداث هناك، اعتمادًا على جواز السفر الألماني الذي حصل عليه من بحار أمريكي، وهناك عرف الكثير عن تفاصيل الحياة داخل المجتمع الألماني بعيدا عن تلك التي كان يتابعها بالصحف البريطانية، وتنامى شغفه بالشؤون العسكرية، وهو الشغف الذي عززه طبيعة المشهد السياسي والأحدث المحيطة به.
وعرف عن «بايك» منذ أيام الدراسة أفكاره غير المألوفة وتطرقه إلى جوانب لم يرد على بال شخص أن يطرحها أو يفكر بها، وكان لديه لكل مشكلة حل غير تقليدي، فحين احتار العسكريون في التوصل لطريقة لإخفاء المركبات الحربية التي يتم إرسالها خلف صفوف العدو، باغتهم «بايك» بفكرة وضعها داخل صومعة ورسم شارة محددة عليها مردفة بالعبارة «مرحاض كبار الضباط، ممنوع الاقتراب لغير عقداء الجيش»، وكان يعلم أن أحدًا من الجنود الألمان لن يجرؤ على الاقتراب واكتشاف ما بالداخل.
وثمة فكرة عبقرية أخرى روادته تتعلق بإرسال أشخاص من أشباه هتلر إلى الأراضي اليونانية المحتلة ليأمرون قوات النازي المتمركزة هناك بالتقهقر والانسحاب، ورغم أن هذه الفكرة لم يخرج حيز تنفيذها عن محيط الحانة التي ارتادها «بايك» وأطلق بها الفكرة، حسبما يشير البعض، فإن الفكرة التالية الخاصة بتصنيع حاملة طائرات من الجليد استلبت ألباب المجتمع العسكري والسياسي بأكمله.
كان ذلك في عام 1941 وحينها كان لترسانة النازي اليد الطولي في البحار، حيث كان الأسطول الألماني يضم غواصات وسفن حربية يمكنها إغراق كل السفن الأمريكية التي كانت تأتي إلى المملكة المتحدة محملة بالإمدادات والمؤن العسكرية عبر المحيط الأطلنطي، وكان ثمة حاجة إلى أسطول ضخم من الطائرات الحربية لأجل حماية سفن الإمدادات.
كان «بايك» قد قرأ مقالًا علميًا غريبًا في نسخة قديمة من مجلة «ناشيونال جيوجرافيك» عن القوة الخارقة للجبال الجليدية، وقدرتها على امتصاص القذائف دون أن يلحق بها أي كسور أو شقوق.
وجاءته الفكرة في الحال لتحويل الجليد إلى قواعد جوية عائمة، تخترق قلب المحيط، ويتم من خلالها حمل الطائرات الحربية ومختلف المؤن والإمدادات العسكرية، وكانت فكرته بادرة تجاوزت كل المطامح العسكرية، وشكلت واحدة من أخطر استراتيجيات التسلح خلال الحرب العالمية.
وعكف «بايك» على البحث لأجل التوصل لأفضل تصميم ووجد أن المياه لو تم خلطها بلب الخشب قبل تجميدها تصبح قوة الجليد أكبر، فهكذا يُصنّع من الخليط الجديد سفن ضخمة غير قابلة للغرق أو الاختراق، وتحت أسوأ الظروف فإن أقصى ما يمكن أن يطولها لن يتعدى مجرد ثقوب يمكن إعادة سدها بالجليد مرة اخرى.
وأطلق «بايك» على مشروعه اسم «حبقوق» تيمنًا باحد الأنبياء الذين ورد ذكرهم في العهد القديم ونقل عنه قوله «سآتيكم في أيامكم هذه بشئ لم تصدقوا يومًا أنه قد يتحقق».
ورغم تعرضه لحالة إنهاك شديدة تم على إثرها نقله للمستشفى واتهمته زوجته بالخرف، فإنه لم يتردد في إرسال الفكرة والتصميم للورد لويس مونتباتن الذي عينه وينستون تشرشل رئيسًا للعمليات المشتركة أثناء الحرب العالمية، وانبهر «مونتباتن» بالفكرة وعينه مديرُا للبرامج العملياتية.
وحتى وينستون تشرشل أبهرته الفكرة بمجرد عرضها عليه، ووجد أنها الحل الأمثل للتغلب على كل العراقيل، وأنها السبيل لغزو النرويج بسلام.
وفي ليلة رأس السنة الجديدة لعام 1942، وفي غرفة نوم عالية السقف في شقته في بيكاديللي، جلس يرتدي بيجامته المفضلة وأسند ظهره إلى سريره، حيث المكان المفضل للعمل يحيطه مجموعات من الأوراق، وعلب السجائر وزجاجات الحليب الفارغة، وإلى جواره أميرال (ضابط برتبة عميد) واثنين من كبار العلماء بالحكومة، بانتظار إفصاحه عن أفكار التنفيذ، وفي مختبر سري خمسة طوابق أسفل سوق اللحوم «سميثفيلد» في لندن، صنع «بايك» أفضل مزيج من المياه ولب الخشب للحصول على أقوى مركب جليدي يشكل الخرسانة التي صنعت منها السفينة، وعلى الفور أخذ الأميرال النموذج التجريبي إلى منزل رئيس الوزراء، وينستون تشرشل، وكلاهما صعق أمام النموذج، وأطلقا على السفينة الجديدة اسم (Pykrete) تكريمًا للمخترع الصحفي.
وعلى الفور تم الشروع في إنشاء ثلاث سفن على هذا الطراز في بحيرة كندا الجليدية، بطول 600 متر، ووزن ألف طن، وامتلأ «تشرشل» بالأمل من أن السفن الجديدة ستكون جاهزة للإبحار بعد عام من بدء التنفيذ، ولكن كل الظروف تحالفت للحيلولة دون إتمام Pykrete، ففيما كانت مستجدات الحرب تتسارع والضغوط تتوالى على المؤسسة العسكرية، ظهر العلماء المنافسين للصحفي الإنجليزي من كل اتجاه للتشكيك في صحة الأسس التي استند «بايك» عليها في تصميم السفينة، وعكفوا على إبراز المساوئ العديدة للسفينة مثال ارتفاع تكلفتها، وبطء حركتها، واحتمالية تعرضها للغرق.
وتسرب اليأس لتشرشل بسبب البطء في إنجاز المشروع الجديد، فيما أصر «مونتباتن» عليه واستمر في التأكيد على قوته بأن أخرج مسدسة وأطلق رصاصة على النموذج المصغر للسفينة في حضرة عدد من قيادات الجيش فارتدت الرصاصة وسارع القادة بالنزول أسفل المنضدة لتحاشي الطلقة، ولكن الأحداث عاودت حربها على مشروع «بايك»، حيث انصرف الانتباه إلى التكنولوجيا الحديثة التي من شأنها التمكين من التصدي لغزو دول التحالف لفرنسا، وتم إهمال مشروع «حبقوق» كلية، وكانت النهاية مهينة للمخترع ولمشروع حربي كان سيحدث تحولًا واضحًا في المشهد العالمي.
ورغم أن «بايك» الذي غاب بجسده عن العالم بعدما عجز عن الصمود في مواجهة الألم النفسي والجسدي الذي حاصره، وقام في فبراير 1948 بابتلاع علبة باربيتورات، ومات، فإن أفكاره ومبادئه لم ولن تغيب، فقد ضرب نموذجًا لما أطلق عليه العوام عبارة «التفكير خارج الصندوق»، وأصبح رمزًا واضحًا للإبداع الفكري والتحرر من حدود الممكن والمحتمل.