x

ماجد عاطف كنت شاهداً على فض اعتصام رابعة العدوية ماجد عاطف الخميس 14-08-2014 11:47


قليلون هم من واتتهم الفرصة ليمروا بتجارب الدم والقتل. قليلون هم من وضعتهم الحياة في مرمى النيران، وعليهم ألا يكونوا طرفا.. فقط شهود عيان وناقلو صورة.

كاتب هذه السطور كان شاهدا على فض اعتصام رابعة العدوية، لا أدري من حسن حظي أم سوئه أنني كنت هناك ورأيت ما حدث.. هذه شهادتي لما رأيت للأمانة ولتاريخ أحد أهم أيام هذه المرحلة.

فقط قبل البدء أود التأكيد على ملحوظتين:

الأولى: أنني غير قادر على نقل الصورة كاملة، حيث إنني بالأخير فرد، محدود بمكان وزمان، بينما ساحة الصدام كانت ممتدة ومتسعة.

الثانية: قد لا يحالفني الحظ في ذكر بعض التوقيتات، وإن كنت سأراعي الدقة جاهداً، معتمداً على ملحوظات دونتها في مفكرتي خلال هذا اليوم.

في الثالث عشر من أغسطس 2013، وردت لنا معلومة أن غداً سيتم فض اعتصام رابعة العدوية فجرا، وعليه توجهنا لمنطقة رابعة، أنا وزميلي «ميك جيجليو»، الذي كان مسؤولاً عن ملف الشرق الأوسط بمجلة «نيوزويك»، وكنت أنا أغطي الأحداث للمجلة من القاهرة.

توجهنا إلى مكان الاعتصام في حدود الخامسة فجرا. كان المكان هادئا وأغلب المعتصمين مازالوا نائمين.

الساعة 5:30 تقريبا بدأت الميكروفونات في النداء على الجميع بالاستيقاظ والتجمع أمام المنصة (المنصة كانت أمام مسجد رابعة العدوية)، النداء لم يذكر أكثر من جملة «كله يجمع عند المنصة».

ثم فجأة بدأ صوت الأذان يعلو. اندهشت لأن هذا ليس وقت أذان- علمت بعد ذلك أنه أذان الجهاد- الوحيد الذي رأيته على المنصة كان «صفوت حجازي» وإن كنت لم أسمع ما كان يقوله.

خمس أو عشر دقائق، وأخذ بعض المعتصمين يدقون على أعمدة النور (إشارة تحذيرية كالتي كانت تدق في ميدان التحرير يوم موقعة الجمل)، حينها أدركت أن قوات الأمن على الأبواب، والفض بات وشيكا.

رأيت سيارتين «فهد» تابعتين لقوات الشرطة في شارع يوسف عباس، قادمتين من صلاح سالم باتجاه طريق النصر، وما إن رآهما المعتصمون حتى بدأوا في قذفهما بالحجارة.. السيارتان دارتا للخلف وعادتا باتجاه صلاح سالم.

اتفقت وزميلي «ميك جيجليو» على أن أتجه أنا للداخل، وأن يذهب هو ناحية الشرطة ليستطلع الأمر، لكن الشرطة قبضت على «ميك» وظل في قبضتهم حتى الساعة الرابعة والنصف تقريبا، ما فرض أن أغطي الحدث وحدي.

بعد القبض على «ميك» بلحظات، بدأت مكبرات صوت (لا أعلم مصدرها) تذيع بيانا مقتضبا للداخلية نصه «تهيب وزارة الداخلية بالسادة المعتصمين إخلاء المكان.. المخرج الآمن هو طريق المنصة. نتعهد بعدم ملاحقة المعتصمين».. تكرر النداء 5 مرات بفاصل زمني دقيقتين تقريبا.

نداء الشرطة أحدث حالة من البلبلة والهرج داخل الاعتصام، ولمدة خمس دقائق تقريبا كان يمكنك أن ترى العقول في حالة شلل تام وارتباك جلى.. بعدها بدأ يظهر (شبه انقسام)، البعض يتحدث عن الخروج الآمن، وأصوات تتعالى بأنه «كمين» ومن يخرج سيقبض عليه.

قررت أنني يجب أن أؤمن لنفسي مخرجا آمنا، حال خرجت الأمور عن السيطرة. تحركت من خلف محطة بنزين موبيل عند تقاطع يوسف عباس/ طريق النصر، وسرت في الشوارع الجانبية حتى وصلت إلى صلاح سالم، وهنا تيقنت أن خروجي مؤمن لو اضطررت للهرب.

لم يعترضني أحد في مساري، لكن بالقرب من صلاح سالم وجدت 6 شباب ملتحين مقبوضا عليهم ويدهم مقيدة بـ«أفيز بلاستيكى» يجلسون القرفصاء، بجوار ضابط قوات مسلحة، ومعه مجموعة من الجنود وسيارتان مدرعتان.. لم أسأل عن سبب القبض عليهم، وآثرت العودة لموقع الاعتصام.

سلكت نفس الطريق للعودة إلى داخل الاعتصام، وهنا وجدت لجانًا شعبية، تم تشكيلها من أهالي الحى على الأرجح. حاولت أن أشرح لهم أن قوات الأمن سمحت للناس بالخروج، وأن وقوفهم يمنع المتظاهرين من الخروج الآمن، لم يستجب لكلامي، ويبدو أنهم كانوا متحفزين لتوقيف والقبض على «الإخوان». رأيت ضابطًا سابقًا من سكان «عمارات الضباط» المجاورة لشارع الطيران واقفًا أمام منزله يحمل طبنجة.

عدت لأرض رابعة، وكان إطلاق الغاز المسيل للدموع شديدا وعنيفا، الكل كان يجري في اتجاهات مختلفة، تقريبا النساء اختفين من المشهد (على الأقل لم أرَى نساء وقتها)، الغاز كان يستحيل معه التواجد في المنطقة.. وقفت خلف محطة البنزين (نقطة التمركز التي اخترتها لنفسي) أراقب ما يحدث، وما أتذكره أن الشرطة كانت تطلق الغاز المسيل للدموع بغزارة، ورأيت اثنين من المعتصمين يصوبان «فرد خرطوش» ناحية مدرعة الشرطة (لا يمكنني الجزم إن كانا قد أطلقا النار أم لا).

المستشفى الميداني اختفى تماما من أمام محطة البنزين، وعلمت أن المسجد (رابعة العدوية) أصبح هو نقطة التمركز والمستشفى الميداني.

بدأت القنوات الفضائية تتحدث عن سقوط وفيات، وكانت الساعة تقريبا 7:30، لم أفهم تحديدا كيف أو أين حدث هذا، أنا شخصيا لم أرَ وفيات أمامي، لكن ربما يكون حدث في نقطة أخرى بعيدة عني.

انتقلت لمنطقة «طيبة مول». كانت قوات الأمن تحاول الاقتحام، والمعتصمون يصدونهم بالحجارة والمولوتوف، لم أرَ (حتى ذلك التوقيت) أسلحة نارية حية مع المعتصمين، أيضا لم أرَ الشرطة تطلق النيران (حتى نفس التوقيت) أيضا.

بدأ المعتصمون في حرق الإطارات، لإحداث دخان كثيف، كما قام البعض باحضار «أسطوانات الغاز» ووضعها خلف المصدات الترابية ناحية «مول طيبة».

أول مرة استمعت فيها لصوت الرصاص كان في حدود الساعة الثامنة (تقريبا) قادم من اتجاه عباس العقاد، لكن هذا لا ينفي احتمالية وجود ضرب نار قبل ذلك ولم أستمع إليه.

أول قتيل رأيته يسقط، كان في الساعة 10 تقريبا (لست متأكدا من التوقيت على وجه الدقة)، لكنني رأيت مراسل شبكة «فوكس نيوز» يصاب بطلق ناري أسقطه على الأرض. كان على مسافة 20 مترا تقريبا مني، وللأسف تملكني الخوف فلم أقترب منه لإسعافه أو حتى جر جسده، خشية أن أتعرض أنا أيضا لطلق ناري.آثرت السلامة وابتعدت عنه، مبررا ذلك لنفسي بأنني هنا لأروي القصة، لا لأتعرض للقتل أنا الآخر.

طيله هذه المدة، لم أكن أعرف مصير زميلي «ميك جيجليو» الذي اختفى، فلم أكن متيقنا هل هو في قبضة الأمن أم أنه قتل هو أيضا. المكتب يتصل، والزملاء يرسلون رسائل استفسار عن «ميك، لكن للأسف إجابتي واحدة: «لا أعرف شيئا عنه».

في حدود الساعة العاشرة (تقريبا) كان أول قتلى أراهم من المعتصمين، حين أطاحت إحدى الكراكات التي كانت تزيل السواتر والعوائق الترابية بأسطوانة غاز وضعها المعتصمون خلف السواتر.. الأسطوانة طارت في الهواء، وانفجرت في جسد اثنين من المعتصمين وحولتهما إلى أشلاء.

قوات الأمن في هذا التوقيت أزالت السواتر من جهة «مول طيبة». لم يعد هناك ما يفصل بينهم وبين المعتصمين. المشهد أقرب ما يكون للكر والفر.. الأمن يتقدم والمعتصمون يتراجعون، والعكس.

وضعي لا يسمح لي برؤية دقيقة، لكنني سمعت في ذلك التوقيت بوضوح دوى طلقات النار. وهنا بدأ السلاح يظهر مع المعتصمين، لكنه لم يتعدَ «المقاريط» أو «فرد خرطوش».. أسلحة خفيفة لا تتناسب مع دوى طلقات النار، ولا يمكنني الجزم هل مصدر الطلقات الأمن فقط، أم أن هناك في نقطة أخرى من يشتبك معهم ولا أراه. المؤكد أن الأصوات تتجاوز ما أراه من أسلحة.

أول تبادل لإطلاق النار رأيته كان الساعة 10:30 (تقريبا) في شارع الطيران، بين قوة من الشرطة وهدف غير مرئي لي أعلى بناية تحت الإنشاء في شارع الطيران.

الحدث الأبرز، والذي أعقبه تحول مرعب في معدل إطلاق الرصاص والعنف، كان في حدود الساعة الثانية (قد يكون قبل ذلك أو بعد ذلك) لا يمكنني الجزم الآن.

الحدث أن عميد شرطة (غير متأكد من رتبته) ترجل مع فرقة من جنوده حاملا مكبر صوت صوب المسجد، طالبا بلهجة حاسمة من المعتصمين إخلاء المسجد والمجمع، وفجأة تعرض الرجل لطلق ناري أسقطه أرضاً، أعقب ذلك إطلاق ناري جنوني، أعتقد أن العدد الأكبر من القتلى سقط في هذا التوقيت (هذا استنتاج وليس معلومة). تملكني الذعر، وقررت الفرار من أرض المعركة، حيث أصبح الموت أقرب مما يمكنني تحمله.

أخذت أعدو ودوي الطلقات يكاد يصم أذنىَّ، حتى وصلت تقريبا لمشارف صلاح سالم.. لا أدري الزمن الذي مكثته، لكن المؤكد أنني دخنت ثلاث سجائر متتالية.

بعد فترة عدت باتجاه المنصة، رأيت «محمد على ابراهيم»، القيادي الإخواني البارز، كان بجوار المنصة، أو لنقل بقايا المنصة. الرجل كان «أعزل» لا يحمل سلاحا، لكنه كان يتحدث كقائد ميداني.. كان يحمس الشباب للتجمع لفتح ثغرة، محفزا إياهم أنه سيكون نصراً مبيناً. حدثت نفسي عن فائدة الثغرة، أو ما هو النصر الذي يبتغيه الرجل، وقبل أن أنهي تساؤلي تلقى الرجل رصاصة في رقبته (أعتقد أنها رقبته) لينفجر بركان من الدماء، وينفض الناس من حوله لثوانٍ، قبل أن يعودوا له ليجروا جثته، لا يمكنني الجزم بمصدر الرصاصة، وهل هو قناص محترف أم أن الصدفة وحدها جعلت الرصاصة تصيبه.

حاولت الذهاب للمستشفي الميداني بالمسجد، ولم أتمكن من الدخول، لكن من الشارع أستطيع القول إن الجثث كانت كثيرة، المشهد كان مرعبا، الدم والصراخ.. الموت كان يسيطرعلى كل شىء.

في حدود الرابعة تقريبا، كان المشهد يوحي بحسم المعركة، وأن النهاية باتت وشيكة. الأمن أصبح قريبا جدا.. الطريق إلى صلاح سالم مفتوح، وعباس العقاد أيضا فتح مساره، لا توجد أسلاك أو سواتر. المعتصمون خارت قواهم، وتقريبا لم تعد هناك مقاومة.

رأيت أعدادا «كبيرة» من المعتصمين تغادر باتجاه صلاح سالم، لم يعترضهم الأمن أو يقبض عليهم. كذلك المارة، لكن لا أحد من مالكي السيارات، سواء الملاكي أو الأجرة، كان يوافق على توصيل أحد منهم، بل إن التشفي والسباب هما ما كانوا يتلقونه من المارة.

مشهد خروج المعتصمين كان جنائزيا ومهيبا.. مشهد يذكرك بالأسرى في الأفلام التاريخية القديمة.

في نفس التوقيت تلقيت إيميلا من زميلي «ميك جيجليو» يخبرني بأنه بخير، وبأن الأمن أفرج عنه، وبأنه فقد محفظته وكل أغراضه، وهو الآن في أحد الفنادق القريبة، ويستخدم كمبيوترالفندق.

غادرت رابعة متوجها إليه، ولمدة ربع ساعة جلسنا صامتين، لا هو حكى لي عن تجربته مع الأمن ولا أنا رويت له ما رأيت في رابعة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية