x

جمال طه زيارة السيسى لروسيا بين مرارة تورا بورا وتهديدات الشيشان جمال طه الأربعاء 13-08-2014 21:23


السيسى وهو يتجه لموسكو للمرة الثانية خلال ستة شهور، يدرك- بحس رجل استراتيجى تمرس فى مطبخ صنع القرار السياسى- أنه يسعى لهدم حواجز، وإزاحة عقبات، ما كان يقدر له تجاوزها لولا تغيرات جذرية طرأت على التوازن الدولى وفى الشرق الأوسط.. بين مصر وروسيا رصيد من علاقات التعاون بدأ بصفقة الأسلحة التشيكية 1955، مروراً بالسد العالى، وانتهاء بإعادة بناء الجيش المصرى وتشييد حائط الصواريخ 1970، لكن هناك أيضاً رصيد مقابل من تجارب مريرة مع مصر والعرب، لا موضع لتقييمها لأن ذلك لن يخفف من وقعها على الروس.. هزيمتنا فى الساعات الأولى من حرب الأيام الستة 1967 شككت فى جدوى التعاون مع السوفييت، وأضرت بسمعة أسلحتهم.. طرد قرابة 20 ألف خبير سوفيتى 1972 بدا وكأنه تعمُد لحرمانهم من مشاركة مستحقة فى نصر أكتوبر 1973.. ثم تُوج بإلغاء معاهدة الصداقة والتعاون الموقعة 1971 وقطع كل صور التعاون العسكرى.. القوات السوفيتية دخلت أفغانستان لدعم حكومة حفيظ الله أمين الماركسية 1979، ليفاجأ بالدولة المصرية تخفض مستوى التمثيل الدبلوماسى مع موسكو، وتعطى تصريحاً للتلمسانى «مرشد الإخوان آنذاك» بالتنسيق مع سلفيى الجزيرة العربية لتحويلها لحرب دينية يحشدون لها المجاهدين، ثم تفتح مخازن أسلحتها وذخائرها فى قنا وأسوان لتنقلها الطائرات الأمريكية C130 إلى إسلام آباد لتسليمها للمجاهدين، ليضطر الاتحاد السوفيتى للانسحاب 1989 بعد سقوط 15 ألف قتيل، وعشرات الآلاف من المصابين، واستنزاف اقتصادى بلغ 50 مليار دولار، ساعد على تفتته إلى 16 دولة 1991، ولم يتم الاكتفاء بذلك، بل إنه وفقاً لخطة برجينسكى، ذهب المجاهدون العرب (باسم السويلم «خطاب»- أبوالوليد ويعقوب الغامدى- أبوفراس «مهند»- أبوعمر السيف- أبوحنفى الأردنى- أبوقتيبة المكى- أبوجعفر اليمنى) إلى طاجيكستان 1993، ثم للشيشان 1995، ليشيعوا الإرهاب فى آسيا الوسطى والقوقاز، بل وفى قلب «موسكو»، العاصمة الروسية نفسها.

علامَ يراهن السيسى إذن- فى مواجهة تلك التراكمات المريرة- كى يستعيد العلاقات الاستراتيجية مع روسيا على نحو يعيد التوازن والاستقرار للمنطقة؟

■ سقوط الرهان الروسى على تركيا، بعد تحولها لمخلب قط لحلف الناتو، لإضعاف النفوذ الروسى فى أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان أملا فى استعادة زعامتها العثمانية فى الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ودول البلقان.. تركيا لعبت الدور الرئيسى فى تشجيع وتسهيل وصول المقاتلين العرب والشيشان والأوروبيين إلى سوريا، وإمدادهم بالسلاح والذخائر، بل إن الاجتماعات التنسيقية التى عقدها «داعش» قبل اجتياحه الموصل قد عُقدت فى إستانبول من 28 فبراير حتى 2 مارس 2014 بالتنسيق مع المخابرات التركية، وكشفت دراسة للمركز الأمريكى للأبحاث فى مقاطعة كولومبية صدرت فى مارس 2014 أن «الجيش التركى خسر247 جنديا وضابطا شاركوا فى القتال مع المسلحين، وسُجلوا كضحايا لهجمات حزب العمال الكردستانى أو أثناء عمليات تدريبية».

■ حدود فاعلية الرهان الروسى على التحرك الإيرانى نحو آسيا الوسطى والقوقاز، خاصة طاجيكستان ذات الأغلبية الفارسية، وبناء شبكة علاقات اقتصادية وثيقة مع دول القوقاز غير الإسلامية مثل أرمينيا وجورجيا، فى كبح الدعوات إلى إقامة طاجيكستان كبرى، وتحجيم التطلعات التركية العابرة للحدود، بل إن إحياء المطالب التاريخية بتوحيد الشعب الأذرى، الذى يوجد منه ستة ملايين نسمة فى إيران، بالإضافة إلى مليونى نسمة من التركمان، قد أصبح يمثل إشكالية لإيران فى تعاملها مع الطموحات التركية التى تمس وحدتها، أرضاً وشعباً.

■ مخاوف روسيا من امتداد تدهور الأوضاع فى سوريا والعراق وليبيا واليمن إلى العمق الاستراتيجى الروسى، خاصة أن القيادات الشيشانية المنخرطة فى صفوف «داعش» و«النصرة» لا تخفى أن معركتها الرئيسية ستخوضها مستقبلاً ضد الجيش الروسى، بعد أن تكون قد تمرست على استراتيجيات وتكتيكات المواجهة، ووفرت قدرات اقتصادية وبشرية من المجاهدين، تسمح لها بالنصر، بعد نكسة حربى الشيشان «1994- 1999» اللتين قُتل خلالهما قرابة 300 ألف يشكلون ربع سكان الشيشان آنذاك، ولعل ذلك يفسر حرص هذه التنظيمات على السيطرة على حقول ومواقع تكرير النفط فى سوريا والعراق، كما يفسر ما يحظون به من تسهيلات تركية لتسويقه.

■ تقدير روسيا بأن تصدى مصر للمؤامرة الغربية التى استهدفت تقسيمها وإثارة الحرب الأهلية بين أبنائها وإسقاط الجيش، يعيدها من جديد لتولى مركز الصدارة والمسؤولية لإعادة الاستقرار والأمن للمنطقة، بما يؤمن الظهير الخلفى للأمن القومى الروسى، ويضمن لها دوراً متكافئاً مع الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط والعالم.

فى جعبة السيسى الكثير من الأوراق، أهمها عرض قدرة التحالف المصرى- الخليجى على إحداث تغييرات استراتيجية على الأوضاع والتوازنات الراهنة فى المنطقة، وأبرزها:

■ السيطرة على تدفق التمويل والدعم للمنظمات والجمعيات المتطرفة سواء فى المنطقة أو فى آسيا الوسطى أو القوقاز.

■ مراجعة الأسس المذهبية والعقائدية التى ينطلق منها العديد من السياسات والمحاور والصراعات الراهنة بالمنطقة: الأمن القومى العربى، والوحدة الوطنية لدول المنطقة، وأمن وحياة المواطن، تتعرض لتهديدات جسيمة من جانب تنظيمات لا تميز بين أهدافها أو ضحاياها، تتساوى فى ذلك الجماعات السنية السلفية (القاعدة- داعش- النصرة- أنصار الشريعة...)، والتنظيمات الشيعية (حزب الله- الحوثيون- عصائب أهل الحق- ميليشيات العباسى...). والتعاون فى مواجهة الإرهاب أياً كان مذهبة سيحظى بالأولوية الأولى.

■ السعى لتحقيق تعاون وتنسيق عربى فى المجالات الأمنية والعسكرية- وبغض النظر عن البعد الطائفى- بهدف السيطرة على انتقالات العناصر الإرهابية، وتبادل المعلومات الخاصة بمنافذ تسللها، ومعسكرات تدريبها، ومناطق تمركزها، على النحو الذى يساعد على مواجهتها.

ثم إن هناك طرحاً يتعلق بإعمال روسيا لدورها كوسيط بين إيران وبعض دول الخليج على النحو الذى يحقق المصالح المشتركة.. سيطرة «داعش» على محافظات الوسط بالعراق، وإحكام قبضته على جميع المنافذ الحدودية مع سوريا والأردن شكل خطراً داهماً على الكويت والسعودية، بنفس القدر الذى يهدد فيه المصالح الإيرانية، حيث لم تعد قادرة على التواصل مع عناصرها فى سوريا، فضلاً عن أن استمرار التهديدات الموجهة باقتحام بغداد العاصمة يدفع النظام العراقى إلى تقديم المزيد من التنازلات التى قد تعيده للخضوع لدائرة النفوذ الأمريكى المباشر، خاصة أن الغارات الأمريكية على مواقع «داعش» لا تستهدف القضاء عليه، وإنما تحجيمه فى الحدود التى تجعل منه أداة طيعة للسياسة الأمريكية بالمنطقة، ولاشك أن ما سيطر عليه «داعش» من أرصدة بنكية ومواقع نفطية فى العراق وسوريا، يسمح له بتجنيد المزيد من المتطوعين لتأمين المناطق التابعة له، وربما التوسع مستقبلاً، الأمر الذى يفرض سرعة التضامن للتصدى له.

أول زيارة للسيسى- كرئيس للجمهورية- لموسكو لا تنصب بالدرجة الأولى على التعاون العسكرى، فقد وضع أسسه خلال زيارته السابقة كوزير للدفاع، وهى فى الغالب علاقة تقوم على المصالح والبراجماتية وتحكمها قواعد التعامل الاقتصادى البحتة، طالما لا تعترضها معوقات سياسية.. مهمة السيسى فى موسكو تتعلق بالتنسيق والتعاون الاستراتيجى بين الدولتين، والسعى لإعادة الاستقرار والأمن لمنطقة الشرق الأوسط، ولعل المقدمة لتحقيق ذلك هى بث الثقة لدى الجانب الروسى بأن ما يحدث فى ليبيا نتاج لسقوط الدولة المركزية بعد انتهاء حكم القذافى، وانفراط عقد النظام القبلى نتيجة للخلل الناتج عن انتشار السلاح.. التعاون بين مجموعة دول الجوار، وأعضاء مؤتمر روما فى تأمين الحدود، وجمع السلاح، والسيطرة على الهجرة غير الشرعية، واستعادة الدولة للمنافذ البرية والبحرية والجوية، ودعم المؤسسات الناشئة خاصة القوات المسلحة والشرطة، يمكن أن يحسن الوضع الأمنى والسياسى، على أن يستكمل الجيش الليبى بعد إعادة هيكلته وتوحيده مهمة استعادة دور الدولة الوطنية.. أما الوضع فى العراق فهو أيضاً لا يدعو لليأس، التراجع المخزى للجيش العراقى أمام اجتياح داعشى على النمط التتارى ناتج عن أخطاء نظام المالكى.. أما التمرد القومى الكردى فهو رد فعل لجرح غائر من غبن تعرضوا له عشرات السنين، لكنه يندمل باستعادة ذكرى خروج صلاح الدين الأيوبى من كردستان على رأس جيش عربى للتصدى للغزو الصليبى وتحرير القدس، التاريخ يؤكد أن العراق الموحد قادم لا محالة.. وكما انتهت الدولة الإسلامية التى أعلنها تنظيم التوحيد والجهاد 2007 قبل أن تولد كواقع على الأرض، ستنتهى خزعبلات دولة «داعش» للخلافة.. فليس معنى اجتياح عصابة إرهابية جزءا من دولة أنها قادرة على تأسيس دولة بديلة، بمؤسساتها وآلياتها وظهيرها الشعبى، خاصة إذا كانت الفكرة كما طُرحت لا تتجاوز «تخاريف حشاشين»، وثقافة «جهلاء ومدعين»، مازالوا يعايشون أحداث صراع العرب ضد الفرس، والاستعداد لغزو بيزنطة، والتهديد بفتح روما.

مهمة الرئيس فى موسكو، رغم صعوبتها، إلا أنها ليست مستحيلة.. وستكون بداية لمرحلة إعادة ترتيب الأوضاع على أرض المنطقة، على نحو يعيد لها استقرارها وأمنها ووحدة أراضيها.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية