جدد حادث واحة الفرافرة الإرهابىالشهر الماضى أحزان سكان الواحة، الذين يشكون إهمال الدولة وتجاهل المسؤولين، رغم أن المنطقة تضم كنزا من الأراضى الزراعية التي لا تحتاج سوى إرادة سياسية لحفر آبار على أعماق كبيرة لزيادة مساحة الرقعة الزراعية، فضلا عن الكنز الأكبر وهو محمية الصحراء البيضاء التي تبدو بسحر طبيعتها وكأنها جزء من كتب الأساطير وحكايات ألف ليلة وليلة.
رحلة البحث في وجوه سكان الفرافرة تكشف بسهولة عن ملامح تتسم بالطيبة والهدوء والسكينة، فيما غابت الروح البدوية عن المكان باستثناء تفاخر سكان المنطقة بنطق حرف «القاف». «المصرى اليوم» اخترقت صحراء الفرافرة، وزارت أماكن تعيش في دائرة النسيان، وقابلت أبناء المنطقة ورصدت مشاكلهم، وسجلت أحلامهم، لتضعها أمام كل من يهمه الأمر في مصر المحروسة.
كانت واحة الفرافرة قرية واحدة منذ سنوات طويلة، ثم تحولت إلى مركز، ونشأت حولها عدد من القرى التي تكونت بفعل «الهجرة الداخلية» لأهالى الصعيد والدلتا، وهو ما أدى إلى اختلاف العادات والتقاليد بها، وبسبب بعدها عن القاهرة وكذلك عن «عاصمة» محافظتها بالوادى الجديد وهى واحة الخارجة، حيث تبعد عن الأولى 627 كيلومترا والثانية نحو 500 كيلو متر، أصبحت هي الأكثر عزلة بين جميع واحات مصر الخمس وخاصة واحات الوادى الجديد، وكأنها «كمن يرقصون على السلم».. فلا هي قريبة من الواحات البحرية أو الجيزة، ليلقى إليها المسؤولون باهتماماتهم، ولا هي ترتبط بـ«أختيها» من الواحتين الأجريين، وتنتظر زيارة المحافظ كـ«هلال العيد»، ودائما يأتى بالوعود بلا تنفيذ.
مسافة طويلة تقطعها لتذهب إلى الفرافرة، طريق ليس بالصعوبة التي يتخيلها البعض، سوى قبل المدينة الأم بـ45 كيلو مترا، ولكن الأصعب أنه لا يتوافر وسيلة مواصلات مريحة إليها، سوى أتوبيس النقل العام، التابع للمحافظة، وبعض أتوبيسات الشركات الخاصة، والمثير أن الطيران يقتصر فيها على «الخارجة» فقط، مرة واحدة في الأسبوع، بالرغم من أنها من المناطق السياحية المهمة.
طوال الطريق لا تجد أي لوحات تدل على الطريق إليها، ولكن ما يلفت النظر أنه عند مدخل الواحات البحرية، تجد مجسما لـ«المشروم والفرخة» أحد أهم المنحوتات الطبيعية في الصحراء البيضاء التابعة للفرافرة، على أساس أنه من معالم «البحرية»، وهو ما جعل أحد أهالى الواحة يلقى باللوم على المسؤولين بأن «التهاون» بهم وصل إلى حد «عدم التركيز» والتساهل في «ممتلكاتهم» التي وهبهم الله إياها، على اعتبار أن هذه المنحوتة تخص الصحراء البيضاء التابعة لهم، ليكون هذا المجسم بداية «الفجوة» وعدم الثقة بين المسؤولين وأهالى الواحة، ولكن تظل طوال الطريق إليها، والجبال التي تكتسى بلون الرمال الصفراء والزلط الأسود، المميز للصحراء البيضاء، «تغازلك» بجمالها الأقرب للجبال البركانية، وكأنها لاتزال مشتعلة، وتمر على الصحراء البيضاء، لتبعث بنورها «الجيرى» إلى عينيك، لترى جمالها، الذي لا مثيل له على مستوى العالم، حتى تصل إلى الفرافرة، تستقبلك بعض قراها في البداية التي تكونت عبر السنين العشرين الماضية، لتصل أخيرا إلى الواحة الأم، فتقف وتسأل «أين الواحة» فيجيبك أهلها بهدوئهم الشديد «هُنا» تنظر حولك، لتجد البيوت جميعها وقد كستها المدنية بالكامل، ولا يوجد أي بيت ينم عن «بدوية» الواحة. المزيد
«الزراعة» و«الآبار أو العيون الرومانية» كانت وجهتنا الثالثة، لا تحتاج الجولة بالواحة إلى عناء كبير للتأكد من عدم استغلال أرضها في الزراعة واستغلال المياه الجوفية والآبار التي وهبها الله إياها، والأهم من ذلك هو إهدار المال العام بشكل واضح في تلك الأراضى، حيث تقوم المحافظة بدق الآبار ووضع الماكينات على بعد 300 متر فقط، لسحب المياه الجوفية، رغم مطالبات المزارعين بدقها على بعد 800 متر على الأقل، حتى «تؤتى غرضها».
دخلنا إلى أحد المواقع، لنجد اثنين من المزارعين، وقد أهلكهما عناء الحفر عند إحدى الآبار، في محاولة منهما لإخراج المياه إلى أراضيهما التي قاربت على «فقد» أوراق زراعتها الخضراء، أحدهما أخذنا إلى موقع البئر، لنجد الحجارة من حوله، دليلا على الحفر المستمر.
وقال أحدهم متجهما: «عايزين نحفر حتى 1100 متر حتى نخرج المياه لنزرع بها، فبسبب ندرة المياه أصبحنا نزرع البرسيم السعودى لأنه (يعيش) 5 سنوات، بينما البرسيم البلدى يعيش لموسم واحد فقط، ونحاول زراعة الشعير والقمح والفول، ولكن يمكننا مضاعفة المساحة عشرات المرات، لو المحافظة حفرت الآبار على هذا العمق وليس 300 متر فقط».
محمود على، أحد المسؤولين عن تشغيل إحدى الآبار، وقف معنا ليحسب الأراضى التي يمكن للواحة والدولة بشكل عام الاستفادة منها ويتم إهمالها.
فقال: «البئر الواحدة تخدم 5 مناطق، وآبار الواحة لو تم دقها على عمق أقل من 850 مترا لن تأتى بمياه، المنطقة الواحدة بها نحو 300 فدان، أي نحو 1500 فدان حول البئر الواحدة، المزروع منها 50 فدانا فقط، بمعدل 10 فدادين للمنطقة، بما يعنى إهمال 1450 فداناً صالحة تماماً للزراعة، وإذا قامت الحكومة بدق آلات للآبار لا تطهرها أو تعالجها حتى تقف الآلة بالكامل، ولا ينوبنا إلا ضياع المال العام، وضياع أراضينا». المزيد
كان المستشفى العام هو وجهتنا الأولى لمعرفة نقص الخدمات في الواحة، خاصة أنه المستشفى الوحيد الذي يخدم المركز والقرى المحيطة به.
بعد أن ظلت سيارات الإسعاف متوقفة، بدأت المحافظة مد المستشفى العام بسيارات إسعاف طائر، ولكن لا تتوافر لها مكان جيد للوقوف، فأمام المستشفى توجد أطلال «مظلة» من البلاستيك، لوقوف السيارات تحتها، دخلنا حجرة المسعفين والمسؤولين عن المكان، ووجدنا أنهم يعيشون داخل المكان الذي يتكون من حجرتين بهما أجهزة تحكم إلكترونية، و«أسرة» للمبيت وبوتاجاز مسطح، وبجوار المكان آثار لمكان شرع البعض في بنائه، وقال أحدهم يدعى مجدى إبراهيم: «وجودنا في هذا المكان سيصيبنا بمرض السرطان، وفقا لتحذير الأطباء لنا»، بينما قال محمد الصديق: «قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا، نحاول الآن بناء غرفة على حسابنا الخاص». المزيد
قبل أن نحمل أوراقنا إلى «الصحراء البيضاء» لتكون آخر محطتنا في الواحة، أصر عبدالنبى ووائل، أن نذهب أولا إلى عم عبده أبوالنور، أكبر دليل في صحارى مصر.
ذهبنا إليه لنجد رجلا قارب على الثالثة والثمانين من عمره، قصير القامة، بشرته تميل إلى السمرة الداكنة، وهو ليس لون بشرة «الفرفرونى» – كما يطلقون على أنفسهم، ملامحه تنم عن «الطيبة» والهدوء الشديدين، وضحكته «صافية» تعبر عن الزمن الجميل، عيناه تتسمان بالدهاء بسبب جولاته «الصحراوية»، «تلقائى» وبسيط للغاية، شارك في تحديد «مدقات» الصحراء البيضاء عندما تم ضمها إلى المحميات الطبيعية.
تحدث عم عبده عن بدايته كدليل وقال:«كان والدى دليلاً للصحراء الغربية، وكنت أذهب وأنا عمرى نحو 30 سنة، مع بعض الأهل ممن يقومون بإرسال البلح إلى أسيوط عبر الصحراء لإحضار «الغلة»، وكنت أذهب معهم، وعرفت الصحراء من خلال التركيز فيها فقط، وبمعرفة النجم القطبى الشمالى، حيث تغيب جميع النجوم إلا هو، وبعدما توقفنا عن هذا الأسلوب، امتنعت عن الصحراء، ولم أذهب إليها لفترة طويلة، حتى جاء أول رالى للسيارات سنة 88، وطلبونى لاصطحب بعض الأجانب لأعرفهم الصحراء، ولكن الخوف تملكنى لابتعادى عن الصحراء لفترة طويلة، وخاصة أننى سأكون دليلاً بالسيارات وليس الجمال، وهما مختلفان تماماً، فذهبت إلى والدى لاستشيره، وقال لى: توكل على الله، فذهبت وكدت أضل الطريق، ولكنى دعوت ربى بدعوة والدى، حتى أنار الله الطريق بالفعل، ومن يومها وهم يعتمدون على كدليل للصحراء، واستطعت التغلب على أكبر دليل في الواحة وقتها، وحتى الآن أستطيع أن أذهب لأسيوط عبر الصحراء بالجمال، وللعلم ليس كل الأجانب يفهمون الصحراء، فالأكثر فهما لها هم الإيطاليون، واصطحبهم دوما، ولم أحدد طيلة عملى مبلغا محددا لأى سائح أو باحث». المزيد
«الصحراء البيضاء» هي جنة الله في أرضه.. تقف بـ«صفاء» لونها الأبيض لتبهر أعين العالم، حيث يراها البعض من أماكن الأساطير، ففى كل موقع تكوينات تميزه، شكلتها يد إلهية، وكل زائر لها من حقه أن يراها كما يشاء، فهنا «عيش الغراب والفرخة» أشهر تكويناتها، ينظر إليها «الحصان» و«الأرنب» من بعد، وهنا البيت الأبيض أكبر تبة في الصحراء، مكان لا تملك إلا أن تعشقه.
رأينا خلال الرحلة تكوينات تشبه «أبوالهول» و«أم كلثوم»، وشعرنا بأن «سفينة نوح» رست في هذا المكان بعد رحلة شاقة، فجميع الحيوانات والطيور وجدناها متمثلة في تكوينات «بيضاء» ناصعة، وشعرنا بأن الرومان تركوا «بحر الإسكندرية» ليأتوا إليها، فهناك منحوتات طبيعية أقرب لتماثيل الرومان، ومن يتوغل فيها يشعر بأن زبد البحر يقترب منه، أما لون التكوينات الأبيض الثلجى فيشعل القلب بحب هذه الأرض وبيئتها ورمالها، بينما لغروب الشمس سحر خاص يضفى ألوانا أخرى للصحراء ما بين الأحمر والأزرق، وعندما يدخل الليل لا يُرى غير النجوم في السماء الصافية.
الرحلة إلى الصحراء البيضاء لم تكلفنا سوى 600 جنيه، نظير تأجير سيارة (4*4)، بدأنا الرحلة مبكرا، وكان «المشروم والفرخة» أول تكوين تأملنا فيه، وهو الوحيد على مستوى الصحراء، الذي قامت الدولة بإحاطته بسلاسل، على اعتبار أنه الأكثر زيارة وشهرة على الإطلاق، وقف السائحون بجواره لالتقاط الصور له، وأخرى أمامه، بعدها توغلنا لزيارة باقى التكوينات، وعلى بعد خطوات وجدنا تكوينا رائعا آخر، لـ«ديك»، يأتى إليه أساتذة النحت من دولة التشيك مع طلابهم لتدريسه إليهم، وما بين الجمل والحصان والأرنب والمشروم، التي اكتست جميعها باللون الأبيض، وتكونت منذ عصور «سحيقة»، بعد أن كانت بحرا، دخل الليل يخترق سكون الصحراء، فجلسنا لنقضى ليلتنا داخل الصحراء، وهنا الكلمة العليا لـ«الشاى» الذي يتم إعداده على «الخشب» وله 3 أدوار، الدور الأول يتميز بـ«ثقله» الشديد، ليقترب من «لون الحبر» كما يطلق عليه البعض، ومن لا يريد شربه عليه بكلمة واحدة «إظ»، وهى تعنى «ثقيل للغاية» وهى كلمة جاءت أصلها من شخص يدعى «الظابوصى» حيث سقا أحد الشيوخ الكبار عدة أدوار من الشاى الثقيل، حتى مرض، وفقد وعيه، وعندما كان يفيق كان يريد نطق اسمه فيقف عند «إظ» ويغيب عن الوعى، حتى تمت إفاقته وحكى ما حدث، أما الدور الثانى فهو «مضبوط بالنعناع» والثالث «خفيف بالنعناع». المزيد