انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعى والصحف صور وأخبار الشاب الذى ذهب للقتال فى سبيل مشروع إعادة بعث للخلافة الإسلامية.. فى تلك الصور شاب يقال إنه نشأ فى ظروف ميسرة وتعلم فى مدرسة متميزة، قبل أن يظهر فى مناظر مزعجة، تتضمن الاحتفاء برؤوس بعد اقتطاعها فى سبيل مسيرة الخلافة.. مناظر مزعجة مثيرة للتأمل فى مسار الوصول إليها.
لا شك أن مثل هذا السياق يحتمل أكثر من شرح، لكن ما جاء فى ذهنى على الفور هو تفسير الفيلسوفة هاناه أرنتدت لكيفية جلب الأفكار والحركات الشمولية التأييد فى العالم الحديث، التفسير الذى يعتمد على فكرة ورطة إحساس الفرد بالـ«عزلة»، ومن ثم عملية البحث عن معنى من خلال الانخراط فى إطار جماعى له اتجاه حاشد ورؤية لا تقبل الأسئلة المزعجة والردود المعقدة.
إذا أردنا تطبيق أفكار «أرندت» على حالة الشاب المذكور هناك بعض الأشياء التى يجب أخذها فى الاعتبار؛ أولا لأنه لا يبدو أنه كان «منعزلا» فى حياته السابقة فى مصر بالمعنى الحرفى، فهو ما زال على اتصال بعدالته حتى هذا اليوم، مما يشير بالطبع لوجود روابط قوية فى الماضى، وهو له معارف وأصدقاء عدة، وهؤلاء يتذكرونه جيدا.. العزلة هنا تعنى إذن الشعور بالابتعاد وعدم الانتماء للمجتمع ككل، مجتمع لم تتكرس فيه قيم التعددية كأساس للاستقرار، فى ظل قبول التنوع والاحتفاء باستقلالية الفرد وحقه فى الاختلاف، والاعتراف بأن لا أحد يمتلك الحقيقة كاملة، وفى نفس الوقت مجتمع فشل فى تقديم الحقيقة الوحدوية التى يمكن الحشد خلفها وتقديم معنى للحياة الجماعية من خلالها.. فرغم أن كل القوى السياسية تقريبا مؤمنة بضرورة سيطرة مثل هذه الرؤية الشاملة الوحدوية، فهذا الإيمان هو ما يدعو إلى إدمان الإقصاء فى المجال السياسى، فلم تستطع أى منها فى تقديم وبسط التصور الشمولى المطلوب.
التناقض النابع عن هذا النوع من الفشل السياسى يظهر أولا للمتعلمين والمرفهين، الذين لديهم وقت فراغ كاف لتأمل مثل هذه الأشياء.. ومشروع الخلافة الذى انضم إليه هذا الشاب «المرفه» يختلف عن الحركات الشمولية المنظمة- الفاشية الهتلرية والشيوعية الستالينية بالتحديد- التى أثارت اهتمام «أرندت» فى الأساس، بل يشبه أكثر المجاميع والميليشيات الأقل تنظيما التى رفعت راية الماركسية فى الماضى، والتى انتقدتها «أرندت» فى كتابات عابرة، فهذه كانت تشبه داعش فى بعض الجوانب (لكن لا مقارنة فى حدة العنف، إن وجد أصلا، بالطبع)، خاصة فى طبيعتها العدمية المنعكسة فى غياب الأهداف المحددة، المتصلة بعالم الممكن السياسى. وربما أن الانضمام لـ«داعش» العدمية يأتى كإحدى نتائج فشل جماعة شمولية شبه منظمة كالإخوان، كما أن الإحباط الذى صاحب تهافت الستالينية أنتج منظمات «ماركسية» عدمية كان معظم أعضائها من الطبقات المتعلمة وفوق المتوسطة.
فالانضمام لجماعات «المجتمع المضاد»، التى تعطى معنى لحياة الإنسان الذى فشل فى إيجاده فى سرب المجتمع الأساسى، ليس ظاهرة مقصورة على الماضى البعيد أو على دول مثل مصر، بل يتواجد حتى الآن فى الديمقراطيات الليبرالية الكبرى، وانتشر لاحقا فى عَقود الستينيات والسبعينيات. لكن لم يختل اتزان المجتمعات التعددية كثيرا بسبب تلك الظاهرة، خاصة أن- على عكس الحالة فى العالم العربى- من دُعى ضمن هذه الجماعات للعنف (أو استخدمه) شكل أقلية صغيرة.. ترى لماذا كان الـ«هيبيز» يدعون إلى السلام بينما تتباهى جماعات المجتمع المضاد عندنا عامة بقطع الرقاب؟ هذا السؤال ربما يمكن أن يبدو غريبا، لكنى لا أعتقد أنه خارج السياق، بل إن السؤال لا يطرح جديدا، فمنذ فترة مثلا تطالب مظاهرات الطلاب فى معظم أنحاء العالم المعاصر بالسلام، بينما فى مصر طالما طالبت بالحرب. السؤال يتعلق بالقيم المسيطرة على نظرة المجتمع للعالم والمنعكسة فى نظام التعليم فيه. وهو موضوع قد تطرقت إليه باختصار فى المقال السابق، وأرجو تكملة الحديث فيه خلال المقال القادم.