ثمة نظرية أساسية في أدب مصاصي الدماء ملخصها أن أغلب شخصيات قصص مصاصي الدماء تتحرك بين مثلث شهير وأساسي هو الجنس والدم والموت وبقليل من الإسقاط النقدي يمكن أن نعتبر أن الدراما المصرية في الموسم الأخير واعتمادا على تغيرات جينية تراكمت خلال المواسم السابقة أصبحت تتحرك بين أضلاع هذا المثلث بصورة أساسية وبشكل غير مسبوق في تاريخها الذي يتجاوز الآن النصف قرن.
ظلت الدراما لسنوات طويلة تتعامل بقدر كبير من الحساسية والتوجس مع كل ما له علاقة بالجنس والعنف الدموي والقتل وظل الموت سواء عبر الجريمة أو المرض أو الانتقام الرباني هو الضلع الوحيد الذي يمكن تمريره وبسهولة لمشاهدين ادمنوا الميلودراما والتراجيديات التي يمثل الموت في البداية أو الوسط أو النهاية عنصرا رئيسيا في آليات صياغتها.
ولكن لأن التليفزيون «يدخل كل بيت»على حد التعبير المستهلك الذي لا ندري هل أطلقه الجمهور أم صناع الدراما أم رقباء التليفزيون في عصر (السماوات المغلقة) المعروفة باسم القناتين الأولى والثانية فقد اعتبر الجنس والعنف الدموي وافعال القتل المباشر بمختلف مستوياته من التابوهات المسلم بأنه لا يجوز ان تظهر على الشاشة بشكل واضح أو مباشر بل إن الإشارة للعلاقات غير الشرعية أو المحرمة كانت تأتي دائما في أطر شرعية قدر الإمكان سواء على مستوى الحوار الذي يلمح من بعيد أو مشاهد الرقص المحتشم من العشيقة للعشيق أو في إطار الاتفاق الضمني مع المتفرج وغالبا كانت الرقابة وصناع الدراما يفضلون الحد الأدنى من العلاقات المشبوهة التي ظلت «ورقة الزواج العرفي» هي رايته الخفاقة من مسلسل إلى مسلسل.
والمتابع وغير المتابع يعلم جيدا أنه منذ عشر سنوات تقريبا ومع بداية الدخول المباشر والحي لعصر الفضائيات المفتوحة تراجعت سطوة الرقابة كليا على الدراما التليفزيونية وهو ما مكن صناع الدراما من خوض مناطق جديدة تماما على مستوى تناول الموتيفات التي يتكون منها مثلثنا الشهير فيما يخص التوظيف التجاري كعنصر جذب أو الموضوع الدرامي، أي أن تصبح العناصر الثلاثة أحد المكونات الدرامية الأساسية كمحرك للأحداث أو مبرر لقرارات الشخصيات أو نتيجة لتلك القرارات أو ذروة للحبكة الدرامية أو كرمز اجتماعي أو شعري أو سياسي.
الخلاصة أنه بقدر ما أفسدت «السماوات المفتوحة» الصناعة فيما يخص التركيز التسويقي على فكرة النجم الواحد أو صاحب أوفر حظ من إعلانات الزيت والسمنة والسكر وبقدر ما بدأ توظيف عناصر الجنس والدم (القتل) والموت بشكل سطحي ومبتذل في بدايات خوض الدراما لتلك المساحات الجديدة إلا أنه وتدريجيا وبحكم قانون النمو الذي تتسم به الدراما منذ نشأتها حتى الآن اصبحت العناصر الثلاثة جينات رئيسية في العديد من الأعمال الدرامية وبدأ الأعتماد عليها بشكل مباشر في إفراز تجارب بعضها صالح وبعضها دون المستوى ولكن مما لا شك فيه أنها أفادت التطور الحكائي والبناء السردي والقصصي للعديد من التجارب التي لم يكن من الممكن أن تتلمس طريقها للمتفرج قبل سنوات قليلة.
الأزمة الحقيقة فيما يتعلق بتلك العناصر ترتبط بعاملين اثنين:
الأول هو استغلالها كعامل جذب تجاري من قبل صناع الدراما الذين يرون أنهم أصبحوا في حل من سيف الرقابة وأن القنوات (المفتوحة) يمكن أن تتغاضى عن أي شيء طالما هناك اسم من العيار الإعلاني الثقيل على واجهة التتر.
وفي حال غياب الاسم الإعلاني فإن القناة لا تمانع في أن يتحول العمل كله إلى حالة من الهوس الجنسي والدموي داخل إطار ميلودرامي هزيل لتعويض غياب اسم النجم بكل مغناطيسيته الإعلانية ولكي تتم صياغة برومو ساخن يحتوي على تجميع للقطات الرقص وغرف النوم والمداعبة وتعاطي المخدرات والجريمة وهي التركيبة التي يحتويها العمل لجذب الشرائح التي يمكن أن تستهويها هذه العناصر والتي لا تهتم كثيرا بالفكرة والحبكة والمضمون وما إلى ذلك من فذلكات المتخصصين و«أعداء النجاح».
الثاني: هو عدم وجود نظام التصنيف العمري المعمول به في كل القنوات المتحضرة في العالم والذي يسمح بعرض كل شيء طالما تم تنبيه المتفرج أن ما سوف يشاهده يحتوي على مشاهد أو ألفاظ أو تفاصيل لا يحتملها كل أفراد الأسرة أو لا يجوز تعاطي الأطفال أو شرائح عمرية معينة معها.
العنصر الثاني تحديدا هو ما يجعل الكثير من الأعمال تتعرض لهجوم كبير في ساحات التواصل الاجتماعي وفي برامج القنوات التي لم تتمكن من شراء المسلسلات بما يوحي بأن المنحازين لفكرة «بيدخل لكل بيت» لم تصلهم ثقافة الـ«18+» أو لم يُصِبهم من حب الإعلانات والتسويق جانب.
في العام الماضي أقدم صناع «موجة حارة» على التنوية أن العمل للكبار فقط في سابقة هي الأولى من نوعها على الرغم من أن العديد من الأعمال الأخرى والتي كانت أقل فنية من هذا النص وأكثر فجاجة وابتذالا لم تحاول التفكير في منطق انتقاء الجمهور لضمان مستوى التلقي المطلوب والشرائح العمرية المستهدفة، كانت عناصر المثلث الشهير حاضرة بقوة في الدراما، فالأحداث تبدأ بقتل عاهرة صغيرة بعد تعذيبها (جنس، دم، موت) وتستمر في محاولة الكشف عن القاتل الذي يوقع بشبكة دعارة كاملة وفي السياق ينتهك الضابط سيد العجاتي شرف حمادة القواد بهتك عرضه لكي يشعره بما تشعر به العاهرات اللائي يسرحن فيصبح مشهد هتك عرض حمادة هو أول مشهد هتك عرض رجل في تاريخ الدراما على ما أتصور لا يكتمل انفعاليا دون أن ندرك ما هي مهنته وما هو القانون الخاص الذي يحاول سيد تطبيقه على الرجل طالما أن القانون العام لم يتمكن من ذلك.
ويقوم الخط الرئيسي في علاقة سيد بزوجته على هاجس جنسي معذب فيما يخص شكه في خيانتها خاصة بعد اكتشاف خيانة درة لزوجها الضابط زميل سيد بل يعتمد حمادة على لعبة جنسية حقيرة عندما يبلغ سيد عن مكان الوحمة في فخذ زوجته فيوشك سيد أن يقتلها.
هكذا لا يصبح الجنس والدم والموت مجرد أطر خارجية تفرزها الدراما بل هي موتيفات أساسية اصبحت جزءا من البناء والسياق ولنتصور غياب أو تقنين أو مراقبة هذا العمل بمنطق «بيدخل كل بيت» لنكتشف أن صناعه لم تكن لتتاح لهم حرية توظيف العناصر الجنسية لدفع الأحداث وإذكاء الصراع.
ولا يمكن إغفال العلاقة الشاذة ما بين تاجرة المخدرات وبين زوجة حمادة والتي نشأت بينهما في السجن والتي عدنا لتذكرها مرة أخرى خلال مسلسل سجن النسا وشخصية جعفر التي حاولت الاعتداء على هند إحدى بنات المعلمة عزيزة أو في السبع وصايا عندما قيل لبوسي إنها تشبه عشيقة كبيرة السجن/ صفوة وبسبب رفضها للعلاقة الشاذة تم التنكيل بها وضربها بشكل مبرح حتى تفتق ذهن أوسة عن فكرة المبروكة والشيخ سيد نفيسة، إنها أصداء الموسم السابق التي سيطرت جيناتها تدريجيا على الموسم الحالي.
ومن يمكنه أن يغفل مشهد تقبيل أحمد الفيشاوي لقدم شيرين رضا في مسلسل «بدون ذكر أسماء» كواحد من تنويعات الفيتشزم الطازجة على الدراما بعد أن خلصته من جريمة سرقة سيارة لاعب الكرة واتخذته بعدها كجيجولو لإشباع جسدها المنهك من جسده الشاب صانعة منه صحفيا كبيرا ولامعا.
الجدير بالذكر أن شخصية الجيجولو كانت واحدة من تنويعات موتيفة الجنس في العديد من الأعمال الدرامية الكلاسيكية خاصة في أعمال أسامة أنور عكاشة وكان عكاشة يستخدم اللفظ الفرنسي في محاولة منه لتمرير صفات الشخصية القائمة بالأساس على إشباع النساء جنسيا مقابل المادة، وتعتبر شخصية نازك السلحدار أشهر شخصيات عكاشة التي كان الجنس يعتبر محركا أساسيا بالنسبة لها في إطار السرد المحافظ «أخلاقيا» خلال سنوات الثمانينيات والتسعينيات وقد أفرزت الشخصية أكثر من خط درامي مع أكثر من جيجولو على مدار الأجزاء الخمس لليالي الحلمية.
وكان لدى عكاشة ولع بهذا النوع من الإناث وما تسببه من تدمير لحياة من حولها ويمكن أن نلمح جذور شخصية نازك فيما يخص الجانب الشهواني في شخصية أم وحيد في الشهد والدموع التي تزوجت من رجل يكبرها في السن وهو الحاج رضوان بتأثير من إمكانياتها الجسدية الجميلة ثم عاشت تتنقل بعد رحيله بين الرجال مما اصاب ابنها وحيد بعقدة نفسية شبه أوديبية دمرت حياته العاطفية تماما.
كانت موتيفة الجنس إذن حاضرة بشكل أو بآخر طوال سنوات من الدراما لكنها ظلت تدور حول عناصر مقننة جدا ومحافظة وبدون الخوض في تفاصيل صادمة للجمهور أو الصناعة.
في الموسم الحالي يمكن اعتبار تفصيلة الصوفة تحديدا (التي وردت في مسلسل السبع وصايا) العينة المجهرية التي بتحليلها نستطيع أن نتوقف أمام حجم التغير الجيني الذي دب في هرمونات الدراما سواء على مستوى العرض أو التلقي، لقد سبق أن وردت هذه التفصيلة خلال سنوات التسعينيات على لسان الشخصية التي أدتها سوسن بدر في مسلسل زيزنيا لأسامة أنور عكاشة وجمال عبدالحميد حيث كانت إحداهن تشير عليها بـ«وصفة» للإنجاب فقالت لها «اقلبيها تبقى صوفة» ساعتها لم يحرك الجمهور ساكنا ولم يخرج موضوع صحفي واحد يفرد للصوفة تعريفا وشرحا وتجسيدا، كما أن عكاشة لم يعتمد عليها في تطوير علاقة الشخصية بزوجها العاقر بل اعتبرها دلالة على شرف الزوجة وعدم رغبتها في الإنجاب بهذه الوسيلة لإنقاذ زواجها المهدد بالانهيار بسبب عدم الإنجاب.
في الحلقة القادمة سوف نتحدث باستفاضة عن طبيعة هذا التغير من واقع التحليل التطبيقي على مسلسلات الموسم الحالي فيما يخص أضلاع المثلث الذي يعتبر زاويتنا لتحليل بعض من ظواهر التغير في جينات الدراما المصرية.