على مدى أكثر من 20 عاماً، تشرفت بتسجيل عشرات الشهادات لعدد كبير من رموز الحركة الوطنية المصرية، ومنهم من توفاه الله، وكنت أشفق كثيراً على من يقول لى «هذه الحكاية لك.. وليست للنشر»!.. كنت حزيناً لذلك بحق، ولكنى كنت- فى الوقت ذاته- أميناً مع من أودع لدى الأمانة، بينما هناك كثيرون قالوا: «اذكرها للتاريخ بعد وفاتى»!
الحكماء قالوا: من لا يقرأ التاريخ لا يبحث عن المستقبل. وكم تعرض تاريخ مصر لكثير من الاستغلال، بسبب أن المنتصر دائماً هو الذى يكتبه، أما إذا انتهت المعركة بالهزيمة فلا كتابة.. ولا توثيق!
عشرات الشهادات مات أصحابها دون أن يكتبوها.. خالد محيى الدين- شفاه الله- كتب مذكراته فى التسعينيات تحت عنوان «.. والآن أتكلم».. تخيلوا الكلام بعد نصف قرن.. بينما رحل زكريا محيى الدين حاملاً معه أسراراً ربما كانت ستغير الكثير من المفاهيم والأحكام.
قبل نحو عشرين عاماً سجلت مذكرات الحارس الخاص للملك فاروق، المرحوم اللواء الغريب الحسينى. كان حلم حياته أن تنشر شهادته للتاريخ، إلى أن تحقق الحلم وظهر فى كتاب صدر عن دار أخبار اليوم تحت عنوان «سنوات فى البلاط الملكى».. «الحسينى» كان الحارس الذى رافق الملك فى رحلة الخروج من مصر يوم 26 يوليو 1952 على مركب «المحروسة».. وعند عودته من الرحلة وجد الكاتب سعيد سنبل واقفاً على رصيف الميناء حاملاً «شيكاً على بياض» من العملاق مصطفى أمين لنشر مذكرات الحارس.. بالطبع هو كان مدركاً الهدف.. ولكنه اعتذر وأصر على حفظ هذه الأسرار لأربعة عقود إلى أن رأت النور.
عشرات وعشرات من القصص المماثلة.. اللواء فؤاد نصار، مدير المخابرات العامة الأسبق- أمد الله فى عمره- كثيراً ما كان يقول لى: «اقفل الكاسيت واسمع الحكاية دى».. قادة عظام فضلوا الموت بالسر بدلاً من البوح به..!
ربما تكون المحاولة التى تستحق كل التقدير هى مبادرة القوات المسلحة بتسجيل شهادات قادتها قبل 15 عاماً من الآن. ولا أنسى هنا دور اللواء أ.ح دكتور سمير فرج، محافظ الأقصر الأسبق، الذى كان مديراً لإدارة الشؤون المعنوية فى ذلك التوقيت.. لقد رأيت جزءاً من هذا المجهود بعينى.. والذى ظل حبيساً إلى أن قرر المشير عبدالفتاح السيسى الإفراج عنه فى أكتوبر الماضى.
وفى هذا التوقيت عرضت القوات المسلحة على الكاتب الراحل، أسامة أنور عكاشة، كتابة فيلم حرب أكتوبر، ودارت معركة كبرى بينه وبين الكاتب إبراهيم سعدة، على أساس أن عكاشة «ناصرى».. وأن الفيلم ربما يقلل من أهمية دور الرئيس السادات فى الحرب..!
لعل أكثر ما كان يقلق الإخوان، خلال عامهم الأسود فى حكم مصر، هو فتح ملفات تاريخهم الدموى وتنظيمهم الخاص الذى أنشئ خصيصاً لتنفيذ عمليات التصفية الجسدية لمعارضيهم.
مصر لن ترى ملامح المستقبل دون أن تكون هناك كتابة واعية ومحايدة لتاريخها.. وهذه ليست مسؤولية الدولة وحدها.. ولكن كل فرد.. بقدر ما نحن بحاجة إلى المصالحة الوطنية.. بقدر ما نحن بحاجة إلى مصالحة مع التاريخ.. ورموزه!