تظلُّ دار الأوبرا المصرية بالقاهرة إحدى علامات التحضّر القليلة الباقية فى أرضِ مصرَ الراهنة، بعدما غزاها الإسفافُ من كلِّ صوب منذ أربعة عقود. لكن مصرَ الراقيةَ، كانت من أوائل دول العالم، وطبعًا أول دولة عربية، اهتمت ببناء دار أوبرا عام 1869، فى عهد الخديو إسماعيل، يعنى بعد برهة زمنية خاطفة من نشأة فنّ الأوبرا الإيطالىّ عام 1600.
حتى بعد احتراقها عام 1971، لم تلبث أن شيدت أخرى عام 1988، وهى السامقةُ الآن كصرح تنويرىّ رفيع فى أرض الجزيرة. أدخلُ المسرحَ الكبير بالأوبرا، لمشاهدة أوبرا كارمن، فأشعرُ أن تلك هى مصرُ التى أعرفها. مصرُ المتحضرة التى كتبت أول كلمة فى كتاب التاريخ، وقتما كان العالمُ يرفلُ فى الهمجية والجهالة. جمهورٌ كثيف جاء فى ملابسه الرسمية الأنيقة، ربطات عنق للرجال، وملابس سهرة فاتنة للنساء، ليشاهدوا «كارمن» الغجرية، بما يعنى أن ذائقة المصريين لم تنحدر كليّةً بعد، وإن جاهدت قوى كثيرةٌ على الانحدار بتلك الذائقة وتفريغ ذلك الوعى تمهيدًا لغزوها والعودة بها إلى عصور بداوة وظلام، لم تعرفها مصرُ عبر ماضيها الطويل.
والأوبرا هى الفن المسرحىّ الوحيد الذى يُنسَب للمؤلف الموسيقىّ وليس للكاتب أو الشاعر. وأما «كارمن» فكتب موسيقاها الفرنسىُّ جورج بيزيه George Bizet (1838-1875)، وكتب النصَّ الحوارىَّ الفرنسيان هنرى ميلاك، ولودفيك هاليفى، استلهامًا من نوفيللا للفرنسى بروسبير ميريميه (1803-1870) كتبها عام 1852. عُرضت كارمن للمرة الأولى على مسرح أوبرا كوميك فى باريس مارس 1875. ولأنها تعدُّ الخطوةَ الأولى فى التغيّر النوعىّ لفن الأوبرا، فقد هوجمت بشدة بعد عرضها الأول من قِبل النقاد والمتفرجين، نظرًا لخشونتها التى لم يكن جمهور ذلك الوقت معتادًا عليها.
الشائع وقتها كان الأوبرات الكوميدية والرومانسية الخفيفة التى تُسلّى بأكثر مما تدعو للتأمل والتفكير. لذا انزعج الجمهور من ذلك النمط الرعوىّ الفج فى «كارمن»، ومن جسارة فتيات الغجر عاملات مصنع السجائر، وغزلهن الصريح للجنود فى ثكناتهم العسكرية المجاورة، وبالطبع مشهد القتل فى نهاية العرض كان نقلةً مباغتة فى فن الأوبرا وقتها. فتمّ سحبها بعد اليوم الرابع من عرضها الأول. وفى الأخير عُرضَت ثمانى وأربعين مرة خلال ذلك العام، لكن ذلك لم يكن كافيًّا لتغطية نفقات إنتاجها، فكانوا يعطون تذاكر مجانيةً لتعزيز الحضور.
ومات بيزيه ذاك العام وهو فى السادسة والثلاثين من عمره دون أن يعرف أى شهرة وعالمية ستحصد أوبراه حتى يومنا هذا. مع نهاية ذلك العام عُرضت فى فيينا وأحرزت نجاحًا جماهيريًّا ونقديًّا هائلا، لتبدأ طريقها نحو الشهرة التى لا شبيه لها. منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، غدت أوبرا كارمن إحدى أشهر الأوبرات المؤداة على مسرح. ويقول المؤرخون إن تلك الأوبرا أزالت الحدود الفاصلة بين أنماط الأوبرات المختلفة: الجادة، البطولية، الخطابية، من جهة، ومن جهة أخرى: الأوبرات الخفيفة، الكوميدية الحوارية الشفاهية.
العرض الذى قدمته دار الأوبرا المصرية مؤخرا بقيادة المايسترو بيتر تيبوريس، وإخراج عبدالمنعم كامل. محاورُ المسرح الثلاثةُ التقليدية المعروفة، المكان: إشبيلية، بإسبانيا، الزمان: عام 1830، الشخوص: كارمن: (أدت دورها الإيطالية الجميلة دراجانا دل موناكو- ميزو سوبرانو)، هى الشخصية المحورية فى العمل. بنتٌ غجرية حادة المزاج، صعبة المِراس، تعرف جيدًّا قدر فتنتها وتستثمرها فى تحقيق أهدافها. تتودد إلى العرّيف «دون خوسيه»، (أدى دوره فرانشسكو أنيلى- تينور)، فيسلّم لها قواده ويأتمر بأمرها حتى تدمّر حياته. يفصم علاقته بخطيبته الطيبة ميكائيللا (لعبت دورها باقتدار إيمان مصطفى- سوبرانو)، ويتمرد على رئيسه، ثم يشترك فى عصابة تهريب بضائع. وفى الأخير، حينما تتحول كارمن الملولُ عن حبّه إلى حبّ مصارع ثيران، تشتعل الغيرةُ فى قلب خوسيه، فيدفع بخنجره فى قلبها، الذى هام به عشقًا فأورثه العذاب، لتموت بين ذراعيه، فيركع على جثمانها ينتحب، ما شاء له الانتحاب.
اخترتُ أن أترجم لكم اليومَ، عن الإنجليزية، «أغنيةَ الزهرة»، التى غنّتها الغجريةُ العنيدة كارمن، لحبيبها الجندى خوسيه، حينما ألقتْ عليه الزهرةَ، ليقع من فوره فى هواها.
«متى سأحبُّكَ؟/ رباه! لا أعرفُ/ ربما لن أحبَّك أبدًا، وربما أحبُّكَ غدًا/ لكنْ ليس اليومَ بالتأكيد/ الحبُّ طائرٌ صعبُ المِراس/ لا قِبَل لأحدٍ بترويضه/ عبثًا تناديه؛ إذا ما قرّرَ ألا يجىء/ لا شىءَ يُجْدى، لا التهديدُ ولا التوَسُّلُ!/ ثمة رجلٌ يُحْسِنُ الكلامَ، وثمة آخرُ صامتٌ لا يتكلم؛/ وهذا مَنْ أُفَضِّلُ./ صامتٌ هو، لكننى أحبُّ نظراتِه./ الحبُّ طفلٌ بوهيمىٌّ مجنون،/لم يعرف يومًا قانونًا/ لا تحبّنى، لكى أحبَّك/ فإذا ما أحببتُكَ، إذًا، خُذْ حَذَرَك!/ الطائرُ الذى ظننتَ أنكَ أمسكتَ به/ خفقَ بجناحيه، وطارَ بعيدًا/ الحبُّ سيظلُّ بعيدًا، فانتظرْ وانتظرْ/ وحينما لا تتوقعه أبدًا، سوف يأتى،/ ها هو ذا، يُحلِّقُ حولك، سريعًا/ خاطفًا/ يأتى، ويروح، ثم يعود إليك/ وقتَ تظنُّ أنك أسَرْتَه، يهرب/ وحين تظنُّ أنك حرٌّ دونه/ يأتيك، ويقبضُ عليك./ الحبُّ طفلٌ بوهيمىٌّ مجنون، لم يعرف يومًا قانونًا/ إذا لم تحبّنى، أحببتُك/ فإذا أحببتكَ/ خُذْ حذرَك!