تظل شخصيته واحدة من الشخصيات الغامضة المثيرة للجدل.. بعض من حياته عرفناه.. ولكن الكثير لم نعرفه حتى الآن.. الفتى الأسمر الذى تنقل بين مهن مختلفة، وظل مطارداً لسنوات طويلة قبل العام 1952 من سلطات الاحتلال، ومن رجال البوليس السياسى نظراً لنشاطه السياسى والوطنى. إنه الرئيس أنور السادات الذى عمل فى كثير من المهن، كان غالبيتها بعد إبعاده عن الخدمة بالجيش المصرى، فى أعقاب اتهامه وآخرين فى قضية اغتيال أمين باشا عثمان وزير المالية الأسبق عام 1946. ولكن تظل المهنة الغامضة من بين عشرات المهن التى عمل بها.. هى الصحافة.. هل فعلا كان السادات «بيشتغل صحفى»؟.
ربما يكون ذلك سؤالا بسيطاً أو عنواناً فرعياً، من الممكن أن نكون قد عرفناه من خلال فيلم أيام السادات.. أو من خلال بعض القراءات فى كتابه الذى يتضمن سيرته الذاتية «البحث عن الذات».. ولكن ما الذى دفع الرئيس السادات للعمل بالصحافة؟.. وهل كان مضطراً للعمل بهذه المهنة؟
وثيقة جديدة تكشف عنها «المصرى اليوم»، وتنشر لأول مرة فى الذكرى 62 لثورة يوليو.. نحاول التنقيب من خلالها عن أسرار من حياة الرئيس المصرى الراحل أنور السادات.
حتى يوم 23 يوليو 1952 لم يكن معروفاً من يقف وراء حركة الجيش.. غالبية الضباط لم يكونوا معروفين باستثناء اللواء أركان حرب محمد نجيب الذى ارتبط اسمه بحرب فلسطين، وخاض واحدة من أهم المعارك التى مهدت لثورة يوليو وهى انتخابات نادى ضباط الجيش عام 1950حينما أصر ضباط الجيش المصرى على اختياره رئيساً للنادى فى مواجهة المرشح الذى يدفع به الملك فاروق.
يقول محمد نجيب فى مذكراته إن انتخابات نادى الضباط كانت هى الخطوة الفعالة الأولى فى طريق ثورة يوليو، فقبل انتخابات النادى كانت اللجنة التنفيذية لتنظيم الضباط الأحرار تعتقد أنه ليس من الممكن القيام بالثورة قبل عام 1955.. لكن بعد الانتخابات أحس الضباط بمدى قوتهم. كان السادات تقريبا هو الضابط الوحيد المعروف بين الضباط الشباب من أعضاء مجلس قيادة الثورة.. لأنه قبل هذا التاريخ بنحو 6 سنوات.. كان المتهم السابع فى قضية اغتيال أمين باشا عثمان وزير المالية المصرى.. وأحد أقطاب حزب الوفد.
.. ولكن من هو أمين باشا عثمان؟
أمين باشا عثمان كان أحد أقطاب حزب الوفد، ووزير المالية المصرى فى حكومة الوفد التالية للحكومة المثيرة للجدل التى تشكلت فى أعقاب حادث 4 فبراير عام 1942 ورحلت عن الحكم فى 8 أكتوبر 1944.. وقد دخل إلى التشكيل الوزارى المعدل كوزير للمالية فى 26 مايو 1942.
كان أمين باشا عثمان، يرأس فى ذات الوقت ديوان المحاسبة وكذلك جمعية الصداقة المصرية – البريطانية.. وكان لتربيته وتعليمه دور فى تشكيل شخصيته، فقد نشأ منذ صغره فى أحضان التعليم الإنجليزى فى مصر، ثم أكمل تعليمه فى جامعات إنجلترا.
و فى إنجلترا تعرف أمين عثمان على الليدى كاترين جريجورى البريطانية وتزوجها، وهو ما جعله يحظى فى جميع مراحل حياته بحب الإنجليز. هذا الحب إضافة لنشأته الإنجليزية، كان سبباً فى توجيه الكثير من النقد له وللحزب..
فى عام 1945 أسس أمين باشا عثمان (رابطة النهضة) التى كانت تضم خريجى كلية ڤيكتوريا التى تخرج فيها.. كان من أهم أهداف الرابطة توثيق العلاقة بين البريطانيين والمصريين.. واتخذ مقرًّا لها 24 شارع عدلى بالقاهرة.. وكان هذا المكان هو مكان اغتياله.
ثلاثون شهراً قضاها المتهم السابع أنور السادات فى قضية اغتيال أمين عثمان خلف الأسوار.. كانت تجربة قاسية بالنسبة له.. شهور طويلة.. ورغم قسوتها كانت مفتاح الخير له.. كل المصريين تابعوا جلسات التحقيق فى القضية رقم 1129 جنايات عابدين المتهم فيها حسين توفيق وآخرين.. كان المتهمون فى هذه القضية 26 شخصًا، وكانت التهم الموجهة لهم هى: قتل أمين عثمان، أو المشاركة فى هذه الجريمة، أو القيام بجرائم فرعية متعلقة بالجريمة الأساسية. كان حسين توفيق وسعيد شقيقه ومحمد إبراهيم كامل الذى أصبح وزيرا للخارجية، وعلى محمود مراد وأحمد على كمال حبيشة وكلهم من أولاد الخالات لجأوا إلى خبير عسكرى يعلمهم استعمال الأسلحة.
ووقع اختيارهم على أنور السادات فقام بتدريبهم فى صحراء ألماظة على استعمال المسدسات والبنادق الذى نفذه حسين توفيق وهذا هو حكم محكمة الجنايات عندما برأت أنور السادات من جريمة الاشتراك أو التحريض فى مقتل أمين عثمان.
حضر جلسة محاكمة أنور السادات كثير من المحامين ذوى الخبرة فى ذلك الوقت، واكتسبت المحاكمة تعاطفاً شعبياً لأن أغلب المتهمين فى القضية كانوا من الشباب. وخلال المحاكمة تصدى أنور السادات لمرافعة النائب العام بالشعارات الوطنية التى رددها.
قضى السادات فى السجن سنتين ونصف السنة منها عام ونصف العام حبسا انفراديا فى الزنزانة 54 قبل أن يحكم ببراءته وسقوط التهمة لعدم ثبوت الأدلة.
وأثناء فترة حبسه بدأ السادات يمارس كتابة بعض الترجمات والأدب الساخر.
أصدر السادات مع بعض رفاقه فى السجن صحيفة ساخرة بعنوان «الهنكرة والمنكرة».. كما قام بعمل إذاعة داخل السجن.. وقدم بنفسه فقرتين.. وكان يكتب فى لوحة إعلانات السجن برنامج اليوم، كل ذلك دفع إدارة دار الهلال إلى أن تطلب منه كتابة مذكراته عن الفترة التى قضاها فى السجن.
من دار الهلال بدأ اليوزباشى أنور السادات رحلته مع العمل الصحفى.. من هذا المكان عرف القراء الضابط الأسمر.. الذى كان على موعد مع المستقبل.
السادات اختار عنوانا لمذكراته التى نشرتها مجلة المصور وهو «30 شهرا فى السجن» على غرار رائعة نجيب الريحانى وبديع خيرى «30 يوم فى السجن». كل ذلك كان بداية لظهور موهبة السادات فى العمل الصحفى ليعمل بعد ذلك فى «دار الهلال» كاتبًا فى مجلة «المصور» سنة ١٩٤٨ عقب الإفراج عنه مباشرة والحكم ببراءته فى قضية اغتيال أمين عثمان.
ولعمله بدار الهلال قصة يرويها أنور السادات فى مذكراته مفادها أنه بعد خروجه من السجن ذهب إلى صديقه إحسان عبدالقدوس ليبحث له عن عمل، وكان عبدالقدوس يعمل وقتها فى «روزاليوسف» و«دار الهلال» وصحيفة «الزمان»، وحدث أن استغنى إحسان عبدالقدوس عن عمله فى دار الهلال، فقدم أنور السادات مذكراته لأصحاب المؤسسة – دار الهلال- فاشتروها منه وبدأوا بنشرها تحت عنوان «٣٠ شهرًا فى السجن».
فى الحلقة الأولى من المذكرات كتبت مجلة المصور تقول:
«اليوزباشى محمد أنور السادات هو أحد المتهمين فى قضية الاغتيالات السياسية مع حسين توفيق وحكم ببراءتهم وهو أقوى المتهمين شخصية وأكبرهم عمرًا وأكثرهم ثقافة وتجربة.. وكان قد عكف أيام سجنه على تدوين مذكرات تصور الحياة داخل السجن أصدق تصوير وهذا هو الفصل الأول من تلك المذكرات التى سنوالى نشرها تباعًا».
كانت الفترة التى عمل فيها أنور السادات بدار الهلال هى التجربة المهمة والأساسية التى استمد منها خبرة واسعة فى مجال العمل الصحفى خاصة فيما يتعلق بإصدار الصحف الأسبوعية. ويشير أنور السادات نفسه إلى ذلك بقوله: «كنت أعمل صحفيًا فى فترة من حياتى، كنت محررًا فى دار الهلال وعرفت من تجربتى كيف تصدر الصحف الأسبوعية».
كان طبيعيًا أن يتم تكليف أنور السادات بعد ٦ أشهر من قيام الثورة بمسؤولية الصحافة وشؤون الرقابة، وهى أحد الأعمال التى أسندت إليه، إلى أن تولى بعد ذلك مسؤولية أول دار صحفية أنشأتها حكومة الثورة وهى «دار التحرير للطباعة والنشر»، وعنها صدرت أول صحيفة يومية وهى «الجمهورية» التى صدر العدد الأول منها فى ٧ ديسمبر ١٩٥٣، وصدرت عنها كذلك «مجلة التحرير» الأسبوعية فى أول يناير ١٩٥٤..
أول من كلفته الثورة برئاسة تحرير «التحرير» هو اليوزباشى أحمد حمروش ثم خلفه الصاغ ثروت عكاشة. واعتباراً من بداية عام 1954 انتقلت الملكية من إدارة الشؤون العامة للقوات المسلحة إلى دار التحرير للطباعة والنشر.
ووفقاً للوثيقة– التى تنشرها «المصرى اليوم»- وقع البكباشى «أنور السادات» على ضمانة بمبلغ 150 جنيها لضمان الدار طبقاً لقانون المطبوعات.. والطريف وربما المثير للجدل أن الرئيس المصرى أنور السادات شطب على رتبة البكباشى بعد أن كتبها بيده رغم أنه كان لايزال فى الخدمة بالقوات المسلحة.