المسافر إليها قد يظن مخطئاً ألا بشر فيها سوى هؤلاء المتراصين بخوذاتهم المعدنية داكنة اللون، وعيونهم اليقظة تسعى يميناً ويساراً طوال اليوم، وبزاتهم العسكرية القابعة خلف السواتر الرملية والفولاذية، وفوهاتهم الموجهة صوب الطريق الأسفلتى النحيل الغارق في خلفية صفراء من رمال شمال سيناء.
ما يزيد على 100 هجوم إرهابى استهدف كمائن القوات المسلحة والشرطة على طول الطريق من مدينة العريش إلى معبر رفح الحدودى البرى، يتصدرها كمين الشهداء- الريسة سابقا- بـ45 هجوماً، وأمام هذا الاستهداف أصبح الطريق «محظوراً» بشكل غير رسمى بعد غياب شمس كل نهار، وأصبح التعامل مع أصغر نقطة ضوء أو تحرك بالنيران فوراً، فلم يكن أمام العابرين اضطراراً سوى «الطرق البديلة»، في مدينة تقضى ما يزيد على 20 ساعة دون أي وسائل اتصال، سواء لشبكات الهواتف النقالة أو الخط الأرضى، لمنع أي اتصالات ممكنة بين العناصر «التكفيرية»، التي استغلت شبكات الهاتف لرصد واستهداف أبرار البزات العسكرية وإبلاغ العناصر التكفيرية المنوطة بتنفيذ العمليات بخط سيرهم.
«الرحلة إلى رفح والمعبر الحدودى أصبحت مستحيلة ليلاً، وفى أغلب ساعات النهار أيضاً يضطر الأهالى لخوض الرحلة عبر طرق بديلة لقضاء حوائجهم وأعمالهم أو خوض الرحلة مضطرين للوصول إلى رجل عجوز يريد الذهاب للمستشفى بالعريش، وفى أغلب أيام فتح المعبر للمعتمرين يفتح الطريق بعد عمليات تفتيش دقيقة على جميع الأكمنة، وخاصةً كمين الريسة والخروبة»، يقول «م. أ»، سائق تاكسى، يسكن مدينة العريش.
«معاهم حق، شباب بيروحوا ودمهم بيسيح هدر وهما في عمر الورد، لكننا نعانى وليس لنا يد فيما يحدث، وأرزاقنا مهددة بسبب تلك الحالة التي نعيشها»، بهذه الكلمات علق السائق على الاحتياطات الأمنية التي تتخذها قوات الأمن في الطريق من العريش إلى رفح.
«المصرى اليوم» خاضت الرحلة من مدينة العريش إلى رفح عبر الطرق البديلة، وكانت البداية من قلب المدينة، حيث انطلق السائق «على. و»، أحد سكان قرية عاطف السادات بالعريش، عبر طريق الميناء بعد المرور على كمين الريسة، حيث تقدم أحد الجنود إلى السيارة بعد استيقافها وألقى نظرة داخل السيارة، ثم أردف قائلاً: «البطايق يا جماعة بعد إذنكم»، ويده اليسرى مازالت تتحسس الزناد، نظرة سريعة على بطاقات الرقم القومى، وجه بعدها المجند سؤالاً للقادمين من القاهرة وأسباب قدومهم إلى العريش باتجاه رفح، ثم نقل البطاقات إلى أحد الضباط ويبدو المسؤول عن الكمين.
عاد المجند إلى السيارة مرة أخرى في أقل من 10 دقائق، ثم طلب من سائق السيارة الترجل، وقام بتفتيش مقعد القيادة، ثم فتح الحقيبة الخلفية للسيارة وتأكد من خلوها من أي ممنوعات أو مواد متفجرة، ثم رفع جهازه اللاسلكى لينطق بأرقام وعبارات لم نستوضحها، ثم قال بعد أن أجابه الطرف الآخر: «سيارة أجرة شمال سيناء قادمة باتجاهك، يقودها سائق بأوراق صحيحة، وبصحبته 4 ركاب من القاهرة في مهمة عمل»، تراجع المجند خطوات قليلة ورفع فوهة سلاحه، ثم أشار للسائق بالمرور.
لحظات وكان «على» يقود سيارته عبر الطريق البديل بمحازاة الطريق الدولى والمسمى طريق الميناء الذي يمر داخل المدينة: «هذه عمائر الريسة، ويبدو واضحاً فوق الأسطح وجود قناصة وعدد من الأسلحة التابعة للقوات المسلحة والشرطة لتوفير غطاء من النيران للكمائن والطريق الدولى حال حدوث أي عمليات إرهابية»، يضيف السائق: «تحولت المدينة لثكنة عسكرية بعد أن استخدم التكفيريون الطرق البديلة الموازية لمداهمة الأكمنة ونقاط الشرطة والأقسام».
كانت تلك تقدمة «على» أثناء إرشادنا عبر الطريق البديل، واستطرد: «فى الليل وإذا ما اضطرتنا الظروف لقيادة السيارات إلى رفح إلى اتباع أسلوب غريب في القيادة، فقد تنبهت قوات الأمن فوراً إلى تلك الطرق البديلة وبدأت في تأمينها وتأمين الكمائن ضد القادمين منها، حيث نضطر إلى قيادة السيارة دون استخدام أي إضاءة، ولا نستخدم المكابح العادية «الفرامل» لأن استخدامها يضىء المصابيح الخلفية الحمراء، ما يعنى تصفية السيارة بمن فيها على الفور، فنستخدم مكابح اليد.
بدأ الطريق الأسفلتى يتوارى رويداً رويداً. يتعرج الطريق بشكل مفاجئ للجهة اليمنى ويهدئ «على» من سرعته فلا تتعدى 20 كيلو متراً للساعة، حيث تحول الطريق الرملى لطريق ملىء بالصخور البيضاء الصغيرة التي تستخدم لتمهيد عملية وضع الأسفلت على الطرق، ويوجد حاجز خرسانى بعد كل 10 أمتار ليدفع السائق لتهدئة السرعة بشكل أكبر.
«القوات المسلحة وضعت هذه الحواجز، ووضعت هذه الأحجار ليضطر السائق للسير بسرعة لا تتعدى الـ20 كيلو متراً في الساعة حتى وإن كان يستخدم سيارة دفع رباعى كالتى يتعامل بها (التكفيريون) في معظم مناورتهم»، هكذا فسر «على» وجود الحواجز، ويضيف: «نحن الآن بمحاذاة كمين الخروبة، وآليات القوات المسلحة قامت بتمشيط الطرق البديلة أكثر من مرة بعد استخدام التكفيريون لها، وقاموا بتأمينها ووضع ضوابط ومعوقات أمام من يستهدف الكمائن عبر تلك الطرق، فآليات الكمين الآن تتمترس على بعد أمتار قليلة منا»، واستطرد: «لكن الوصول إليها وتنفيذ أي عملية انتحارية، كتلك التي يقوم بها الإرهابيون، أًصبح الآن أمراً أشبه بالمستحيل، فقد تمكن الجيش من تغطية جميع المناطق المكشوفة من الأكمنة عبر الطرق البديلة».
لم يكد «على» يستكمل حديثه حتى صم الآذان صوت وابل من الرصاص بدا مصدره بعيداً، واقترب مصدر الرصاص رويداً رويداً، قبل أن يطفئ السائق محرك السيارة تظهر في المشهد مدرعات تابعة للقوات المسلحة تقوم بتمشيط الطريق الرئيسى، وأخرى تقوم بتمشيط الطريق البديل، تمهيداً لعبور شاحنات كانت تحمل شحنة معونات موجهة لقطاع غزة المحاصر.
دقائق استمر فيها السائق يخوض حرباً ضروسا مع الرمال التي غطت الطريق الذي لا يميزه سوى الحشائش التي تحده من الجانبين لتعطى له خطاً خارجياً رفيعا يحدد مساحته. يدلف «على» عبر منحنى آخر تحده أشجار النخيل من الجانبين.
استوقف المجند المرابض للكمين سيارة «على» واستعلم عن بطاقات الرقم القومى مرة أخرى، ثم رفع جهازه اللاسلكى بعد أن سأله: «إنتوا جايين من العريش؟» وتلقى رداً بالإيجاب، وبعد أن جاءه رد الطرف الآخر، اقترب الجندى من السيارة ورمق السائق بنظرة حادة وتساءل: «إنت وصلت هنا إزاى؟»، فأجابه السائق: «عبر الطريق»، فأجابه الجندى مرة أخرى: «إنت ماجيتش عل الطريق، ولفيت حول الكمائن»، أجابه السائق بالإيجاب، ليطلب الجندى من زميلين له التحفظ على السيارة بمن فيها حتى انتهاء تفتيشها على مسافة 500 متر من بوابات المعبر.
شبكتا «موبايلى» و«جوال» الخليجيتان هما الطريق الوحيد للتواصل لساعة أو اثنتين إضافيتين عن الساعة الوحيدة التي تعود فيها شبكات الاتصالات إلى شمال سيناء، وللأسف نحن لا نعلم متى تكون تلك الساعة تحديداً، لكنها دائماً ما تكون بعد حلول الظلام، فطوال ساعات النهار نحن محرومون من استخدام الهواتف، اللهم إلا من يستطيع توفير رفاهية شراء خط من دول الخليج و«شحنه بالرصيد من هناك».
هكذا انطلق «مصطفى. س»، أحد سكان منطقة المقاطعة بشمال سيناء، ليضيف قائلاً: «هذه المأساة نعيشها منذ بدأ الهجمات الإرهابية على قواتنا بسيناء، وفى بعض الأحيان قد لا تعود شبكات الاتصالات إلى المحافظة بأسرها ليوم أو اثنين».
مصدر أمنى رفيع أكد، لـ«المصرى اليوم»، أن استخدام الطرق البديلة دفع قوات الأمن لفرض مزيد من إجراءات التأمين على الطرق وأمام الكمائن، وأضاف: «لقد أًصبح الوضع أكثر أمناً في هذه الأوقات، فقد طهرنا رفح من العناصر الإجرامية، ومازالت عملية تطهير الشيخ زويد من التكفيريين جارية بعد أن أصبحت نقطة لتمركزهم وتجمعهم، كما أننا نقوم الآن بتأمين تلك الطرق بأكثر من سلاح، حيث يتم رصد برج مراقبة وجندى قناص وآلية سلاح متعدد، وسلاح آلى، وحكمدار لكل نقطة مرتفعة بالقرب من الطرق البديلة، وأى مخالفة للأوامر المتبعة أو محاولة لعبور الكمين تواجه بحزم».
عن قطع الاتصالات عن المحافظة، يقول المصدر: «قطع الاتصالات عن رفح هو إجراء احترازى ضرورى بعد أن استخدمت شبكات الاتصالات الأرضية والتابعة لشركات المحمول في رصد تحركات وتنفيذ العمليات الإرهابية».