8 ساعات من القاهرة التى تعيش أجواء رمضان إلى أكثر المناطق اشتعالاً.. إلى رفح، على بعد أمتاراً عن قطاع الموت، حيث تقصف إسرائيل غزة لنرصد تنفيذ قرار مصر بفتح المعبر لاستقبال المصابين جراء القصف.
صدح أذان المغرب فى أصداء مدينة العريش الخاوية إلا من مركبات القوات المسلحة التى تتمترس وسط الطرقات فى كل كيلو متر تقريباً، وبدا الوصول إلى معبر رفح درباً من دروب المستحيل، حيث تنام المدينة رغماً عنها مع آخر خيوط النور، حيث يغلق طريق العريش تماماً، وقد يلقى من يحاول مخالفة ذلك حتفه بكل بساطة لاعتياد العناصر الإرهابية استخدام هذا الطريق للهجوم على قوات الأمن، حسب قول أحد السائقين من سكان المدينة لنا تبريراً لرفضه التوجه إلى رفح، لذا انتظرنا الصبح مرغمين.
انطلقنا مع أول خيوط فجر الخميس الماضى فى سيارة خاصة يقودها أحد أبناء العريش، ابتعادنا عن الطرق الرئيسية، حسب نصائح السكان لكل من أراد التوجه إلى المعبر سواء لتوثيق دخول المصابين، أو الذهاب إلى غزة لمن أراد من الفلسطينيين العالقين بسيناء أو لمن يرغب فى استقبال أحد القادمين من غزة.
45 دقيقة من العريش إلى المعبر، مررنا خلالها على 5 كمائن للقوات المسلحة، تنتهى بكمين أخير يبعد حوالى 500 متر عن المعبر أمام نقطة تمركز قوات حفظ السلام، تشير عقارب الساعة إلى 7 صباحاً، وهناك كان صوت طائرة إسرائيلية تحلق فوق غزة يؤكد أننا وصلنا بالفعل إلى المعبر فيما يصيح المجند المتمركز بمقدمة الكمين لحوالى 8 أفراد و3 أطفال تقدموا نحو الكمين قاصدين بوابات المعبر البرى «ارجع.. مافيش دخول، ممنوع»، فيجيبه رجل تجاوز الخمسين بلهجة فلسطينية وهو يجر خلفه حقيبة سفر «يا ولدى ودنا ندخل بلادنا، وحكومتكم قالت هالحين راح يفتحوا المعبر، ليش ما تخلينا نمر؟»، أجابه الجندى بعد أن هبط عن المدرعة «يا والدى ماعنديش أوامر اتفضل تحت المظلة بعد نقطة الإسعاف»، وأشار المجند إلى نقطة تبعد حوالى 100 متر عن الكمين، وانصاع الجميع.
صوت انفجار مدوٍ حجب لثوانٍ صوت «الزنانة» كما يلقب أبناء سيناء والفلسطينيون الطائرة بدون طيار والتى تستخدمها إسرائيل لمراقبة الحدود، وما إن خف دوى الانفجار إلا وتحدث «عبد الله النجار» وهو فلسطينى من غزة ليبدأ حلقة نقاش انطلقت تلقائياً تسرد آمالاً معلقة ببوابات المعبر ليقول «لست أردنياً لكنى أقيم بالأردن، وأحمل جوازاً أردنياً مؤقتاً لمدة عامين، دخلت مصر منذ فجر الإثنين الماضى مروراً إلى فلسطين لأزور أهلى بغزة، بدى أموت بقريتى خزاعة بنى سهيلة بشرق خان يونس». وأضاف: قريتى تقع وسط القصف الصاروخى الصهيونى، وهذه المرة الثالثة لى على بوابات معبر رفح لمحاولة الدخول إلى بلدتى لأشارك وطنى فى المأساة وفى المرتين السابقتين كانت تلك هى الإجابة «لا مرور لأحد من معبر رفح» وأنا لا أملك إلا العودة إلى العريش مرة أخرى.
وتابع:«تلقيت هاتفاً من أهلى بالأمس وبالطبع هم لا يعيشون ببستان ورد، فوضعهم مأساوى ولا يخفى على الجميع، كيف لى أن أصير هنا عل مقربة من عائلتى أنا تحت شمس مصر وهم تحت نار إسرائيل، لا أملك سوى مراقبة الغارات الغاشمة تختار من تختار ليزف شهيداً إلى السماء، وأنا لا أحمل هوية فلسطينية لكنى كما تقولون بالمصرية (فلسطينى ونص وخمسة)، وعادة ما تواجهنا مشكلة على الجانب المصرى فى معبر رفح، فهم لا يسمحون إلا لحاملى الهوية الفلسطينية بالمرور، ورغم أنى عبرت إلى أهلى بغزة فى 1997 من هنا بالجواز الأردنى المؤقت إلا أن السلطات المصرية تمنع ذلك ولا تسمح سوى بمرور حاملى الهوية الفلسطينية، رغم أن جوازى مؤقت وموثق به أنى فلسطينى الميلاد والهوية».
محمد على مصطفى البردويلى، من خان يونس، يعيش عامه الخامس على أرض مصر، حيث يدرس بكلية الهندسة بجامعة المنصورة، يقول: «نحن معتادون على وقفة مصر إلى جانبنا، وهذه ليست المرة الأولى لأبناء غزة فى هذا الوضع المأسوى، وبالطبع نحمل من التاريخ والحوادث السابقة ما يؤكد لنا أن مصر لن تمنع جريحاً من أن يلوذ إليها قاصداً أطباءها لما يشهده وضع المستشفيات المتردى فى غزة، فالعدو يمنع عن أهلنا بالداخل أى خدمات طبية فيقتلهم بالقنابل وبمنع حق الإنسان فى تلقى العلاج والدواء، واليوم ننتظر تنفى قرار السلطات المصرية بفتح المعبر لتمر إلى أهلنا الإغاثات ويمر المصابون إلى مصر ليتلقوا العلاج». «البردويلى» أكد أنه مثل كثير من الفلسطينيين العالقين على بوابات رفح ينتظر أن يشمل قرار فتح المعبر وتمرير الجرحى السماح بمرور العالقين إلى ذويهم، «أهلنا بالداخل يعيشون ذعراً لم تشهده غزة من قبل القصف والقتل هذه المرة يتم بطريقة عشوائية». وتابع وهو يحبس دموعه «تلقيت اتصالاً من أهلى بالأمس، إنهم يقتلون الأطفال والنساء، ولا يفرقون بين مدنى وغير مدنى، والمجزرة التى تشهدها غزة أكبر مما تصفه الصور والأخبار التى تنقل إلى العالم، فلا أهلنا يملكون دفاعاً عن أنفسهم، ولا القاتل يحركه دافع سوى القتل لمجرد القتل».سقطت دموع «البردويلى» وهو يلقى بكلمته الأخيرة قبل أن يلتقط حقيبة صغيرة تحمل أمتعته: «نحنا بنشكر مصر على قرار فتح المعبر لنقل المصابين، لكن ودنا يسمحولنا نموت بكرامة، ما لنا غير الشهادة طلب، وما نبغى إلا شرف الدفاع عن أرضنا».
وبعد مرور 3 ساعات كاملة من الانتظار، قطع صوت سيارات الإسعاف حديث البردويلى ليقف الجميع على أطرافه منتظراً لأى أخبار طيبة من القافلة التى ضمت 10 سيارات إسعاف، فيما بدا وكأنه إشارة لاقتراب فتح المعبر لنقل المصابين، فصاح الرجل الخمسينى «عبد الله النجار» وقد تهللت أساريره «يا رب خيراً». وقبيل وصول قافلة السيارات إلى المظلة التى استقر عليها الجميع، توقفت أمام نقطة إسعاف رفح ليخرج من أولى السيارات الطبيب محمود عامر، رئيس هيئة إسعاف شمال سيناء، ويتجه مباشرة إلى بوابات مركز الإسعاف ليقول بصوت واضح :« يالا يا شباب كله يجهز، واللى مش معاه جاكيت فوسفورى يتفضل يروح» فأجابه جميع العاملين الذين خرجوا لبوابات المركز بإيماءات تؤكد استعدادهم. وفى أٌقل من 5 دقائق وبعد ضجة كبيرة أحدثها صعود العاملين بهيئة الإسعاف للمركبات، توجهت القافلة على الفور إلى بوابات المعبر، ودوى انفجار آخر لغارة إسرائيلية داخل غزة، ليصيح الجميع فى آن واحد «حسبنا الله ونعم الوكيل»، استقرت قافلة الإسعاف أمام بوابات المعبر دون أن تمر، لم يعل فيها صوت فوق صوت طائرة المراقبة الإسرائيلية.
«معتز» أحد الأطفال الفلسطينيين العالقين جاء مع 2 من إخوته هو أكبرهم وبصحبة والدته التى رفضت الحديث واكتفت بالإشارة إلى فتاها ليقول إن خاله الذى يسكن منطقة العجمة بغزة اتصل بوالدته وطلب منها الحضور كى يعودوا إلى أرضهم قال: «نحنا ما بنخاف القصف ولا طائرات الإسرائيليين، وودنا ندخل نعيش وسط أهلنا حتى ولو وسط النار والقنابل، وننتظر السلطات المصرية تسمح بمرورنا لنعود لوطننا ندافع عنه».
4 ساعات كاملة قضتها سيارات قافلة الإسعاف المصرية على بوابات المعبر دون أن تمر، لتعلن دقة الساعة الحادية عشرة عن مرور أول السيارات لتليها بقية سيارات الفوج، وفى أقل من دقيقة عادت سيارات القافلة أدراجها بسرعة كبيرة، فيما اقترب الجميع من مسارها ليتأكد من وصول أول مجموعة من المصابين من داخل القطاع، اقتربت السيارات أكثر بنفس سرعتها، وتوقفت أمام مركز إسعاف رفح، ليهبط رئيس هيئة الإسعاف ويقول: «تم تأجيل نقل المصابين، هناك غارة إسرائيلية.