من يتابع المسلسلات التليفزيونية التاريخية التى تجرى أحداثها فى النصف الأول من القرن العشرين، يلاحظ أن «الطربوش» كان سمة أساسية من سمات العصر، فقد كان من النادر أن يرتدى رجلاً بدلة دون أن يرتدى الطربوش الأحمر. وقد بدأت ارتداء الطربوش عندما وصلت السنة الرابعة فى مدرسة دمياط الابتدائية، وهى شهادة كان من يحصل عليها يعتبر «أفنديا» ينادى بلقب أفندى، وهو لقب تركى، وكان حاكم مصر يلقب بأفندينا، وهناك واقعة درامية يؤكدها كثيرون تقول إن الخديو إسماعيل الذى عزله الإنجليز، بعد أن وصلت الديون التى اقترضها إلى 126 مليون جنيه، بعد أن تسلم مصر من سعيد وديونها 11 مليوناً، فإنه بعد أن تم تعيين ابنه توفيق خلفا له دخل توفيق على أبيه لأول مرة بعد تعيينه فاستقبله إسماعيل بكلمة «أفندينا»، وكان ذلك بمثابة اعتراف من الأب بخلافة ابنه.
وقد كان الطربوش فى الأصل تركيا، عرفته مصر عن طريق تركيا التى ظلت مصر تتبعها سنوات. ورغم أن كمال أتاتورك شن حملة شعواء على الطربوش وأجبر مواطنيه على ارتداء القبعة بدلا منه خلال دعوته إلى علمنة تركيا، إلا أن مصر تمسكت بتقليد الطربوش. وكان الملك فؤاد وبعده ابنه فاروق يرتدى الطربوش، كما كان يفعل ذلك جميع باشوات وبكوات وأفندية المرحلة. ولكن بعد ثورة يوليو 1952، ورغم أن صور جمال عبد الناصر وهو طالب يظهر فيها بالطربوش إلا أنه عندما خلع قادة الثورة ملابسهم العسكرية وارتدوا الملابس المدنية وعلى رأسهم جمال عبد الناصر لم يرتدوا الطرابيش، وبدا أنهم ثاروا أيضا على تقليد الطربوش الذى أخذ فى الاختفاء حتى أصبح «أنتيكة» يبحث عنه مخرجو الأفلام والمسلسلات التاريخية ليرتديه الممثلون، إلا أن كل الطرابيش التى تظهر فى هذه الأعمال طرابيش شكلها خال من الاحترام الذى كانت تتميز به، وكانت تعطى لمن يلبسه وجاهة ووقارا.
إلا أن ثورة عبد الناصر لم تكن على الطربوش وحده بل أيضا على تقاليد الملابس المألوفة وهى البدلة والكرافت التى كان الموظفون يذهبون بها لأعمالهم. وكان باشوات مصر يجلسون على الشواطئ فى الصيف بالبدلة البيضاء التيل، كما كان من لوازم الأناقة الحذاء الأسود على أبيض، ولكن ذات صيف فوجئنا برئيس الجمهورية عبد الناصر وهو يرتدى التى شيرت «السفارى» نصف كم التى ذاع تفصيلها وسبقت الجينز فى انتشارها.
ومن يعود إلى صور جده أو أبيه قديما فلا بد أن يجد صوره بالبدلة التقليدية والطربوش. وقد كانت هناك صورة تذكارية للفصل المدرسى الذى تعلم فيه أبناء جيلى يحضر جميع التلاميذ يومها بالبدلة الكاملة والطربوش ويجلس فيها الناظر وسط التلاميذ. وهى ظاهرة اختفت من كل المدارس، ولا أتحدث عن الطربوش وإنما عن الصورة التذكارية التى تلتقط فى آخر السنة لتلاميذ كل فصل مما كان يشير إلى مدى الترابط الذى كان يربطنا. وهو ما ينعكس علينا عندما نصادف صورة من هذه الصور توقف أمامها طويلا ونحن نسترجع وجوه الزملاء.. زملاء فترة البراءة والمحبة. أنا شخصيا أشعر بفرحة كبيرة عندما ألتقى زميلا كان فى مدرسة دمياط الابتدائية أو التوفيقية الثانوية أو كلية حقوق جامعة عين شمس، وأشعر بأننى عدت إلى الوراء واستعدت أيام شبابى الجميلة البريئة. اليوم لا أذكر أن هناك مدرسة حكومية واحدة سجلت صور أى فصل فى آخر السنة، بل أكاد أقول إن التلميذ يتخرج من مدرسته بعد الثانوية ويودعها دون أن يتذكر اسماً واحداً من مدرسيه، ونفس الوضع بالنسبة للمدرسين الذين كانوا ينادون علينا بالاسم ويحفظون صورنا. وهذا هو الفرق بين تعليم وتعليم رغم أن المكان واحد فى مدرسة حكومية.
وعندما دخلت مجلة آخر ساعة فى عام 1953 وكان الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيساً للتحرير كان من عادته عندما كان يسوق سيارته الأوبل السوداء أن يضع طربوشه على الكرسى إلى جواره، وعندما يخرج من سيارته ويصعد مكتبه فى الدور الأول من أخبار اليوم يكون ممسكاً بالطربوش لا يلبسه، ثم فور دخوله مكتبه يضعه على المكتب ويخرج للاجتماع بالاستاذين على أمين ومصطفى أمين. وقد ظللنا لوقت طويل كلما فتحنا الغرفة وشاهدنا الطربوش نتصور أنه مع صاحبى الدار فى اجتماعات كانت تطول كثيراً إلى أن حدث أن اكتشفنا بالمصادفة أن الأستاذ يترك طربوشه على مكتبه ويغادر الدار فى مهمة انتهت بزواج الأستاذ!