قيادة دولة كمصر ليس مثل إدارة كتيبة أو فرقة أو وحدة عسكرية، وهى بالتأكيد ليست شبيهاً لشركة حتى ولو كانت عملاقة، وفى كمالها لا تماثل محافظة من محافظاتها أو إقليماً من أقاليمها، الدولة، خاصة لو كانت مثل المحروسة بتنوعها واتساعها وكثرة سكانها وانتشارها بين النهر والبحر، ومثلها بعد ثلاث سنوات من الحالة الاستثنائية التى لم تعهدها كثيراً فى تاريخها القريب أو البعيد، ربما سوف تحتاج نوعاً جديداً من القيادة لم تعرفها من قبل. أقول قولى هذا، وبعد استغفارى الله لى ولكم من القراء، بعد أيام من انتخاب الرئيس السيسى لرئاسة الجمهورية، ومن مكانى البعيد بعد البحر الأبيض والمحيط الأطلنطى، فإن الرجل صار فى موقع لا يحسد عليه.
هو من ناحية يعرف أهدافه جيداً: عودة المصريين للعمل، التنمية المستمرة والمستدامة باستثمارات هائلة، تغيير الخريطة المصرية حتى تتيح القدر الأكبر من العمل والاستثمار، إقامة جمهورية القانون، السعى نحو نظام للأمن الإقليمى يتيح محيطاً آمناً لمصر ويعطيها الفرصة للتقدم. ولكن من ناحية أخرى فإن المعضلة هى كيفية تحقيق هذه الأهداف، فنحن نعرف للوحدة العسكرية هدفاً محدداً وهو تدمير العدو ومنعه من تحقيق أهدافه، كما نعرف للشركة هدفاً هو تحقيق الربح وجذب أكبر عدد ممكن من العملاء، وهكذا الحال. ولكن المسألة مختلفة إذا كان لدينا خمسة أهداف، هى بطبيعتها متكاملة حتى ولو كان لكل منها طبيعته الخاصة، وهى أكثر اختلافاً عندما تجرى فى مناخ يزيد فيه الشك على الثقة، والتربص على التسامح، وبلا ظهير سياسى منظم يقوم بعمليات بلورة المصالح للشرائح الاجتماعية بحيث تتناسب مع الهدف والموضوع، كما يساهم فى عمليات التعبئة الضرورية للموارد الضرورية لتحقيق هذا وذاك.
الخطوة الأولى كانت تشكيل الحكومة الجديدة، وكان استمرار المهندس إبرهيم محلب مناسباً، فهو من ناحية على دراية بالأمور الجارية التى لا يجوز مقاطعتها، خاصة أن بعضاً منها يجرى فى طريق التغيير والإصلاح، ومن ناحية أخرى فإن الرجل منذ قيادته لشركة المقاولون العرب له طبيعة عملية تشبه المهام التى يقوم بها رئيس أركان الحرب فى الجيوش. ولكن الوزارة على أهميتها تحرك الجهاز الإدارى للدولة، ولكن الأهداف المشار إليها تحتاج لما هو أكثر من هذه المهمة على أهميتها. فمن الجائز أن تدفع بقوة العمل الحكومى خطوات تتناسب مع حجم الاستنزاف الذى يقوم به للثروة القومية، ولكنها سوف تفعل القليل، ما لم تسع لإحباط، خاصة فى حالة إعادة التركيب الجغرافى للدولة أو القبول الواسع للاستثمارات القادمة من الداخل والخارج. هذه مهمات تحتاج رئاسة الجمهورية ليس فقط لقدرتها على الإلهام، ولكن الأهم التفاوض مع القوى السياسية الأخرى لكى تقوم بمهمتين:
أن تشارك فى التعبئة لهذه الأهداف، وأن تقوم بطرح التشريعات اللازمة لها بعد الانتخابات البرلمانية، وهى التى توفر مناخ الاستثمار، وهى التى ستجعل إعادة تشكيل الخريطة المصرية ممكناً ومقبولاً. مثل هذه المهمة ليست سهلة، فلو كانت البلاد تدار كما لو كانت وحدة عسكرية فإن التصور هو القبول والطاعة من كل العناصر المشتركة فى القرار والتنفيذ، وحتى فى الشركات الكبرى فإن التشاور داخل مجلس الإدارة ضرورى، ولكن فى النهاية فإن القرار سوف يكون لأكثر الأعضاء امتلاكاً للأسهم، ما لم تكن الشركة من شركات القطاع العام التى لا يعرف أحد من يمتلكها، ولذلك فإن أول الضحايا فى عملها هو الهدف الذى قامت من أجله. ولكن لحسن الحظ أن رئاسة الجمهورية ليست كذلك، وعليها أن تتسلح بأكبر قدر ممكن من الصبر، والأهم أكبر قدر ممكن من الدراسات والخيارات لكى تأخذ معها الغالبية من القوى السياسية فى الاتجاه المقصود.
هنا فإن الرئيس أمر والرئاسة أمر آخر، كلاهما متصلان نعم، ولكن لكل منهما وظيفته، فالأول عليه ليس فقط ألا يستسلم للضغوط التى تحاول أن تحيد به عن تحقيق أهدافه والتى تأتى عادة ليس من أصحاب المصالح- وهى بالمناسبة مشروعة- وحدهم، وإنما من كل من كتب مقالاً يؤيد فيه الرئيس، وإنما عليه أيضاً أن يوجه الرأى العام والقوى السياسية المختلفة فى اتجاه هذه الأهداف عبر فهمها وعرضها، وتحديد ما هو مطلوب من «الشعب» أن يفعله حتى يستفيد من هذا التوجه.
هنا بالمناسبة المسألة ليست تكتيكية، بل هى استراتيجية فى المقام الأول، فلو كان الهدف هو تخفيض استهلاك الكهرباء فإن الدفع فى اتجاه المصابيح الموفرة للطاقة ربما لا يكون أفضل السبل لتحقيق الهدف، بل إن عدم تحقيقه، واتباع الرأى العام له، ربما يؤدى إلى خيبة الأمل. الأجدى هنا أن يحدث ذلك فوراً من خلال الحكومة وجهازها الإدارى والوحدات المحلية، وهى مجتمعة من أكبر المستهلكين للكهرباء، إغلاق المحال التجارية بعد العاشرة مساء كما هو الحال فى كل دول العالم، بل بعد السابعة مساء فى عطلة نهاية الأسبوع، سوف يجعل حركة الناس وراء الهدف من طبيعة الأشياء. هناك أمور أخرى بالطبع، ولكن الرئيس لا يتدخل إلا فى كل ما هو استراتيجى وكبير، أما التكتيك فهو متروك للحكومة والأجهزة التنفيذية الأخرى.
الرئاسة وظيفتها فى نظام سياسى مختلط أن تكون العقل المفكر للأمة، وهى المراقب على السلطة التنفيذية، والمحاور للسلطة التشريعية، والمستجيب للسلطة القضائية. هى التى عليها أن تفرز قيادات ومعارف الأمة بحثاً فى الداخل والخارج عن كل من ينفذ استراتيجية، وكل من يحقق هدفاً. هنا يتم الإعداد والبحث والتجهيز لكافة مشروعات الدولة الكبرى، من محاور التنمية المختلفة، وإعادة تشكيل خريطة مصر، حتى نصل إلى نظافة مدينة القاهرة لكى تكون عاصمة لائقة للبلاد.
هنا أيضاً تجرى عملية اعتصار مواهب وخبرات المصريين لكى نصل إلى جذور المشكلات وليس قشورها، ومن أول التعامل مع قضايا الفقر والعشوائيات، وحتى التوصل إلى حل جذرى لجرائم التحرش الجنسى (ما جرى يوم تنصيب الرئيس السيسى فى ميدان التحرير كان فضيحة دولية بكافة المقاييس لا يجب أن تتكرر مرة أخرى). هنا فإن الرئاسة تصادفها معضلتان: أولاهما أنها المكان الذى تتشكل فيه مراكز النفوذ، والأخرى أن ما فيها من مواهب قد تكون مقصورة عن المواهب الموجودة فى الدولة فتنزع إلى استبعاد الأخيرة. كلاهما لا ينبغى له أن يقلل من مكانة الرئاسة، ولا أن تؤدى المعضلتان إلى تقليص الرئاسة إلى أعمال السكرتارية، كما فعل الرئيس مبارك فصار لدينا رئيس قوى ولكنه محاط برئاسة ضعيفة، حتى ولو حاول معظم العاملين فيها الحصول على درجة الدكتوراه. المفتاح هنا هو الرئيس الذى عليه تشكيل رئاسة قد يكون الولاء فيها شرطا ضروريا، وإنما الأهم أن تكون لديها من القدرة والموهبة والشجاعة التى تجعلها تقدم للرئيس ما يعينه على تنفيذ برنامجه وتوجهاته وأهدافه الكبرى. وربما تكون الفرصة المتاحة للرئيس السيسى أفضل بكثير مما كان متاحاً للرئيس مرسى، الذى لم يكن لدية فقط مشروع يذكر وإنما كانت «الرئاسة» لديه هى مجلس إرشاد الإخوان المسلمين، الذى كان معنياً بالسيطرة والهيمنة على الدولة بأكثر مما كان يفكر فى دفعها إلى الأمام.
«الرئيس» و«الرئاسة» هما فى النهاية قادة القادة، والرئيس هو «المايسترو»، وبحكم مكانته الخارجية فهو القادر على جذب الموارد والإمكانيات والتأييد، أما الرئاسة فهى التى عليها ضبط الإيقاع، والتأكد من أن المشروعات يجرى تنفيذها. قال الرئيس مبارك ذات مرة إنه أزاح واحدة من وزاراته بعد ثلاثة عشر شهراً فقط لأنه كلما اجتمع بها وجد الوزراء يتحدثون فى نفس الموضوعات، وعن نفس العقبات، وحتى عندما تتخذ قرارات ويعود إلى اجتماع آخر يجد الوزارة فى نفس النقطة. مثل ذلك لا ينبغى له أن يحدث، وربما يساعد كثيراً ليس فقط إعطاء المحافظين سلطات «الحكم المحلى» بل أن يكون لكل مشروع كبير- سيناء والصعيد وممر التنمية ومحور قناة السويس والمحافظات الجديدة وغيرها- قائد تكون له سلطات الرئيس، ويقدم له وللرئاسة تقارير دورية بين أسبوعية وشهرية وربع سنوية وسنوية. مثل ذلك، وربما يضاف له، سوف يجعل الرئيس دوماً على بينة بما يجرى، وكذلك الرأى العام. هل يكون ذلك مرهقاً للغاية: نعم فلهذا كان انتخاب الرؤساء!.