من بين عشرة أفلام تسجيلية طويلة شاركت ضمن مسابقات الدورة السابعة عشر لمهرجان الأسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية (3-8 يونيو) استطاع الفيلم المصري «موج» للمخرج الشاب أحمد نور أن يحصل على الجائزة الكبرى للمهرجان رغم المستوى التنافسي الشديد الذي اتسمت به المسابقات هذا العام في ظل وجود عدد من الأعمال الدولية والمحلية عالية الجودة الفنية وصاحبة الأسلوب المميز والأفكار الطازجة والتقنيات السردية والتكنيكية المتطورة.
بالنسبة لكثير من متابعي المهرجان فإن الجائزة الكبرى كانت اقتربت كثيرا من يد المخرج المكسيكي الشاب هوراشيو إلاكا الذي قدم ملحمة بصرية مغايرة عن الواقع النفسي والذهني للاعبي السيرك الحديث في فيلمه «رعي السماء» متخذًا من التسجيلية الشعرية ذات البعد التوثيقي إطارا له.
وعلى ما يبدو فإن لجنة التحكيم المكونة من المخرجة المصرية هالة لطفي والمخرج اليوناني ديميترس كوتسيبياكيس والفرنسية ماريان لير والمخرج والمنتج المصري وائل عمر شعرت أن التسجيلية الشعرية قد بسطت نفوذها على مسابقة هذا العام ولكنها على ما يبدو أيضا انحازت نحو التجارب ذات البعد الذاتي الذي حاول أن ينظر إلى العالم عبر الكاميرا ولم يعنيه أن تكون الكاميرا وسط العالم، وكأنها نفسات شعورية ومحاولات مستحيلة للإجابة عن أسئلة مراوغة تطرحها رمادية الواقع والتاريخ سواء على مستوى الماضي او الراهن.
من هنا لم يكن مستغربا أن يفوز فيلم« حبيبي بيستناني عند البحر» للمخرجة الفلسطينية الشابة ميس دروزة بجائزة لجنة التحكيم الخاصة عن تجربتها الذاتية في التعاطي مع واقع راهن ولحظة تاريخية ممتدة منذ أكثر من ستين عاما في محاولة للإجابة عن سؤال الهوية النفسية والتجاوز عن ألم الشتات الذي أصبح يتوالد جينيا في خلايا الأجيال الجديدة من الفلسطينين.
ومن المهم أن نشير أيضا إلى ذلك الحضور الأثيري للبحر كعنصر شعري وميتافيزيقي ونفسي في كلا الفيلمين الفائزين بالجوائز الأساسية للأفلام الطويلة «حبيبي بيستناني عند البحر» و«موج» فالبحر هنا يتجاوز الحدود المادية لكونه بيئة مكانية على المستوى الواقعي أو الجغرافي إلى كونه أرضًا روحية وخيارًا بصريًا متعدد الدلالات والتأويلات داخل بدن السرد المباشر وغير المباشر في الأفلام.
موج.. المكان والحالة
يمكن أن نقسم الفيلم إلى ثلاثة فصول أساسية رغم أن المخرج نفسه قسمه إلى خمسة أقسام ولكن على مستوى السرد الفعلي والسياقات النفسية والشعورية فإن الأقرب إلى الاستعياب هو ثلاثة وحدات شعرية وسردية يختلط فيها الخاص بالعام والواقعي بالمستقبلي الغيبي.
الفصل الأول أو الوحدة السردية الأولى تضم كل ما يخص التاريخ النفسي والاجتماعي والشعوري للمخرج والذي قام بنفسه بكتابة التعليق الصوتي وقراءته بصوته في تأصيل تقني لفكرة للأسلوب الذاتي وتأكيد على أن ما نراه هو حالة داخلية تخصه بالأساس وكل ما فعله أنه شعر برغبته في أن يشاركنا إياها فربما تمس عناصر أو أشياء مشتركة في نفوسنا وملامحنا الداخلية وذكرياتنا.
بدأ المخرج فيلمه بقوس مفتوح لطفلة صغيرة هي ابنة أخته التي ولدت قبل تنحي مبارك في 2011، وبعدها وعبر استخدام تكنيك الرسوم المتحركة قام بسرد تاريخه الخاص النفسي والشعري عبر مشاهد متتالية تستحوذ على الفصل الأول بأكلمه شكلت بالنسبة له المعادل البصري الحر متجاوزا الشكل التقليدي الذي يقدم التاريخ الخاص أو العام عبر توالي الصور الفوتغرافية أو أشرطة الفيديو المنزلية أو الجرائد.
ويبدو استخدام تكنيك الرسوم المتحركة برغم كلفته المادية على المستوى الإنتاجي شكلا سرديا يرتبط عضويا بمضمون الفصل الأول والفيلم ككل واحد، فالمخرج لا يقدم لمحات من تاريخه الخاص على مستوى الواقع المادي ولكنه يرغب في اقتناص وعرض وتفتيت لحظات تتجاوز الأحداث والأمور الحياتية رغم أنها نابعة منه ونقصد بها على سبيل المثال حكايته عن كراسة الرسم التي كانت شئ نفسي هام بالنسبة لطفولته وكيف فقدها عندما تخلصت منها أمه مع بعض «الكراكيب» أو علاقته الأثيرية بالغربان والتي سوف يشكل حضورها البصري كرسوم متحركة أو الصوتي بنعيقها المميز أحد الموتيفات السردية والشعرية الأساسية في التجربة.
لم يكن ثمة ما يمكن أن يتيح للمخرج هذا القدر من الحرية البصرية في الحكي على المستويين الشعري والمادي مثل الرسوم المتحركة، إنه يستعيد علاقته بالغربان حين كان صغيرا عبر تجسيد أحد الغربان كرتونيا وهو يلعب معه، ثمة يتحدث عن مذبحة الغربان التي جرت على يد ابطال نادي الصيد المصري وقتل فيها أكثر من 100 ألف غراب في حديقة الفرنساوي، وهي حادثة تاريخية عامة لكنها ذات دلالات شعرية خاصة وسياسية واضحة في نظرة جيل المخرج الشاب إلى الحكومة التي لا تدرك أن الغربان جزء من الهوية البصرية والسمعية والمكانية للمحافظة، ثم ينتقل إلى عملية إغلاق الشواطئ العامة والتضيقات الحكومة من خلال لوحات تقف فيها الغربان خارج البوابات وهنا يحدث التماهي والخلط المقصود بين ذات المخرج وهمومه العامة وبين عنصر الغراب في الحكي، فالغربان التي تقف خارج الأسوار ما هي إلا المخرج نفسه وسكان مدينته المحرومين من ممارسة المواطنة في أبسط صورها.
وينتقل عبر نفس السياق ليحكي عن تطور علاقته كواحد من أبناء السويس مع المدينة التي تعتبر أحد أغنى محافظات مصر وكيف تتعامل معها الحكومة كأنها ملكية خاصة وليست مكان له خصائصة الجيو-سكانية يحتوي على مواطنين لهم حقوق ومساعي وتفاصيل أدمية يجب استيفائها بحكم القانون والحضارة والمدنية.
في الفصل الثاني يكون المخرج قد أفرغ شحنة الذاتية الكبيرة التي دفعته لخوض التجربة التسجيلية في البداية، لقد تحدث عن الشوارع النفسية الخاصة حتى خرج بنا إلى ميادين العام وأصبح من الطبيعي أن ينتقل إلى الحكي عن آخرين مثله من أبناء «مدينة الغريب».
يمكن أن نطلق على الفصل الثاني فصل الأيقونات، هنا يغيب المخرج ذاتيا ويحضر الأخر الذي يبدو امتدادا للمخرج/المواطن نفسه، في لقطة بانورامية يقوم المخرج بتجميع عدد كبير من الأهالي يتحدثوا عن معاناتهم مع الواقع السويسي قبل وبعد الثورة، يبدو الشكل أكثر خبثا من الصورة الظاهرة، الأسلوبية تفصح عن تجريد متعمد رغم أنه يتحدث عن مدينة محددة وأشخاص محددين وظروف اقتصادية واجتماعية معينة، ولكن المخرج يضع الأهالي كلهم في بوتقة بصرية واحدة ويتركها تشتعل بشكواهم وحديثهم الفوضوي وتداخل أصواتهم وصرخاتهم واستغاثاتهم مما يجعلنا نشعر أنه لا يقصد أن يضع فقرة اجتماعية ليوصل شكواهم للمسؤولين داخل فيلمه وإنما هو يطلق العنان لروح الغضب والإحباط والثورة التي توجد بداخلهم مثلهم مثل الملايين من سكان المحافظات والمدن المصرية الذين بلا شك لديهم نفس الشكوى والغضب رغم اختلاف الأسباب.
وباستخدام أبسط أساليب المونتاج -وأكثرها مدرسية- يضع لقطة لدوامة كبيرة في مزج بصري مع وجوه الأهالي الصامتة والمكبوتة بالغضب، ويحكي عن الواقعة الغامضة للعرافة التي قالت لمبارك في بداية حكمه أن نهايته سوف تكون في السويس ولهذا فإنه طوال فترة حكمه لم يزورها أبدًا رغم كونها محافظة استراتيجية، وإن كانت تلك الواقعة أصبحت منتشرة خاصة بعد ثورة يناير وسبق وأن قيلت على محافظة اسوان التي ادعى البعض أن مبارك زارها مرات قليلة جدا ولم يبقى فيها يومًا كاملًا طوال فترة حكمه على الإطلاق.
وكما استعرض لنا المخرج موج الذكريات في الفصل الأول يستعرض لنا دوامة الغضب في الفصل الثاني ويتوقف بعد شكوى الأهالي عند شهداء السويس الذين كانوا أول شهداء سقطوا في ثورة يناير صانعا منهم أيقونات بصرية وكأنه لا يريد لنا أن ننساهم أبدا، حيث يبدأ بتصوير الشخصيات قبل أن تتحدث مثل ابنة أحد الشهداء أو أخيه وهم يتحدثون بشكل جماعي أو منفرد ثم يجمعهم في نهاية السياق في لقطة ثابتة طويلة كأنه يريد لنا أن نتذكرهم دائمًا أو يريد أن يؤكد على أنهم صاروا ايقونات حية يجب أن تظل عالقة في الذاكرة لا تغيب.
يطيل المخرج من زمن تلك اللقطات التي تجتمع فيها عائلات الشهداء حتى لنظن أنه يريد لنا أن نتأملهم ولا نتذكرهم فقط وهو ما يخلق تشويش إيقاعي بعض الشئ على الحالة البصرية خاصة أن اللقطة حية وليست ثابتة، أي أن الشخصيات تظل صامتة شاخصة إلى الكاميرا مما يضطر بعضهم للإتيان بفعل ميلودرامي أو نظرة حزن تبدو مفتعلة وليست تسجيلية.
في الفصل الثالث تعود ذات المخرج للظهور مرة أخرى ولكن بشكل أقل نضجا وتجريدية وعمقا من الظهور الأول، هذا فصل الأصداء الذاتية التي تأتي من هنا وهناك، تساؤلات المخرج الخاصة التي يضعها على لقطة واسعة للأفق البحري العريض بينما الكاميرا تهتز من حركة الـ«موج» الرافعة الخافضة في دلالة على شعوره بعدم الاستقرار الوجداني والذهني.
علاقته مع كابتن غزالي شاعر المقاومة ومؤسس فرقة أولاد الأرض وإحدى الأيقونات البشرية والوطنية المعروفة جدًا في التاريخ الحديث لمدينة السويس والتي بدت أقرب لمشاهد الاعترافات الكنسية على مستوى التشكيل البصري –في مكتبة كابتن غزالي وجلسته- أو على المستوى الدرامي والنفسي حيث يذهب إليه المخرج ليعترف بتشاؤمه من القادم رغم الفرحة العابرة خلال ثمانية عشر يوما من النقاء الثوري.
وينتقل إلى أصدقائه الذي يعرض لنا حفل زواج أحدهم دلالة على أن الحياة سوف تستمر وأن التشاؤم الذي يرتبط فلكلوريا بالغربان/ذات المخرج يمكن أن يكسره بصيص من الأمل والحركة نحو المستقبل.
لا يمكن إذن أن نعتبر أن الفصل الثالث في الفيلم على المستوى الشعوري أو السردي يحمل الذروة أو الإجابات بل هو تكريس غامض لمزيد من الأسئلة الخاصة والعامة التي قرر المخرج أن يصنع الفيلم من أجل أن يطرحها على ذاته أولا ثم على المتلقين ايا كانوا.
حتى مع كون الفيلم ينتهي بلقطة لحلا ابنة أخته التي كبرت قليلا خلال الأعوام الثلاثة الماضية في محاولة لإغلاق القوس الذي فتحه في البداية وهو ملمح تفاؤلي واضح ومباشر، إلا أن السياق الأساسي للفصل الثالث هو سياق الغموض وفقدان البوصلة حتى مع توالي الموج على الشاطئ في حركة سرمدية لا نهائية بدأت منذ خلق الله البحر ولن تنتهي إلا يوم أن يجف قبل القيامة.
ثمة حس شعبوي واضح في سياقات الفيلم ربما يعد من أبرز العناصر التي يمكن أن تؤهله للعرض العام بعيدا عن أروقة المهرجانات والعروض الخاصة، بداية من النبرة الصوتية والأسلوب الحواديتي الذي اتخذه المخرج في التعليق الصوتي منذ المشهد الأول ليوحي لنا بأن التجربة كلها أقرب للحكايات الدرامية التي يختلط فيها الواقع بالخيال بالإضافة إلى الحميمية النسبية التي يمثلها السرد عبر استخدام الرسوم المتحركة في الفصل الأول والطرافة البادية في إبراز المخرج للمفارقات الإنسانية والاجتماعية والسياسية سواء عبر التعليق أو الصورة ناهينا عن أن اللمسة الميلودرامية التي تصبغ الفصل الثاني الخاص بلقاءات أسر الشهداء تجد صدى واسع في التلقي رغم كآبتها الاصيلة ونضيف عليها المزج المونتاجي والإحالات البصرية المباشرة التي من السهل رصدها عبر ذهنية المتفرج العادي من غير محترفي مشاهدة هذا النوع من الأفلام.
يبقى أن نشير إلى أن التجربة كلها تحمل بصمة العمل الأول بامتياز سواء على مستوى الطزاجة والجرأة والمغامرة الشكلية أو على مستوى الزخم والاذدحام الشعوري والفكري الذي يريد معه المخرج أن يقول أشياء كثيرة تعتمل بداخله سواء اتسقت وتبلورت أو تشظت وتشعبت وليس أبرز من مثال على ذلك من الحكاية التي قدمها من تاريخه الخاص عن اكتشافه لأن أبيه كان يكتب لأمه خطابات عاطفية ملقبا إياها باسم مستعار هو «موج» لأنه كان من غير اللائق أن يكتب لها باسمها مجردًا من أجل ضمان سلامتها الأسرية، هذه الحكاية رغم رقتها وطرافتها إلا أن وجودها في السياق العام يبدو غريبا وبلا قيمة حقيقية تخص الموضوع أو الأسئلة المطروحة بل أن وجودها من عدمه لا يشكل فارقا على عكس موتيفة الغربان على سبيل المثال التي لا يمكن الاستغناء عنها، وقديما قال الأولون إن الفنان الجيد يعرف بما يحذفه وليس بما يضيفه لأن العمل الفني هو نحت في الزمن والمادة الشعورية ودراما الحياة وتلك نصيحة هامة من أجل اعمال قادمة أفضل.