x

مكاوي سعيد عتاب صغير للعملاقين طه حسين والعقاد مكاوي سعيد السبت 07-06-2014 21:27


في الثلث الأول من القرن الماضي، وبالتحديد في عام 1933، رأى الاستاذ عباس العقاد أن التغني بصوت طائر البلبل في الأدبيات العربية ليس مقبولا لأنه تغن أوروبي، أي منقول من الأدبيات الغربية، خاصة ولدينا طائر صوته جميل وعذب ونعرفه جيدا وهو الكروان الذي يصاحبنا صوته بعد الغروب فنأسى له وتنشرح قلوبنا لحلاوة صوته، والذي يعتقد العامة أن صوته مقدس وأنه لا يغني بل يردد كلمة «الملك لك الملك لك» معلنا عن وحدانية الكون، وصاغ العقاد قصيدة جيدة تدعيما لفكرته سماها «هدية الكروان» وقد تلقف منه الفكرة أستاذنا طه حسين وكتب روايته الشهيرة «دعاء الكروان» ونشرت عام 1935وبصدرها إهداء للأستاذ العقاد، واحتفى الناس بهذه الرواية احتفاءً كبيرًا وتحمس لاحقا المخرج الكبير هنرى بركات لرواية دعاء الكروان وأخرج فيلما بنفس الاسم في عام 1959 تولى بطولته الفنان أحمد مظهر والفنانة فاتن حمامة، وقد صار هذا الفيلم الجميل من كلاسيكيات السينما المصرية وفي استفتاء أجرته مجلة الفنون المصرية عام 1984 جاء في المرتبة السادسة في قائمة أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما المصرية، وعلى الصعيد الدولي تم اختياره في عام 1959 ليمثل مصر في مهرجان برلين، وكان هذا حدثا سينمائيا متميزًا آنذاك، وقد اكتسب الفيلم أهمية بالغة أخرى لم يدركها الكثيرون، وهي أن الفيلم يتضمن صوت طه حسين وهو يعلق على نهاية البطلة قبيل النهاية بصوته الأجش الرخيم بينما تتلقى الرصاصة التي ستودي بها وصوت الكروان يعلو بنداه «ترينه كان يرجع صوته هذا الترجيع، حين صرخت هنادى في ذلك الفضاء العريض» وهذا التسجيل لصوت عميد الأدب العربي على الشريط السينمائي يعد من التسجيلات النادرة التي حفظتها لنا التقنيات الحديثة، بالإضافة إلى صوته في مقدمة البرنامج الإذاعي القديم «لغتنا الجميلة» الذي كان يعده ويقدمه الشاعر فاروق شوشة، والذي يقول فيه طه حسين بصوته الشجي المميز «لغتنا الجميلة يسر لا عسر، ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها» وللعميد طه حسين أيضا حديث تليفزيوني شهير سجله قبيل وفاته ويحاوره فيه كوكبة من الأدباء والمفكرين على رأسهم نجيب محفوظ وأنيس منصور ويوسف أمين العالم ويوسف السباعي وآخرون، وقد تكون له أحاديث أخرى مسجلة أتمنى ألا تكون قد نالها التلف من سوء التخزين.

أغلبنا قرأ أو شاهد الفيلم السينمائي المأخوذ عن رواية دعاء الكروان، وهي رواية وصفية تعتمد على السرد الذاتي من وجهة البطلة آمنة، عبر فلاشات باك كثيرة تفسر لنا معاناتها بين حبها للمهندس الذي اغتال براءة أختها الكبرى هنادي وتسبب في موتها وصراعها مع فكرة الثأر التي قادتها للعمل عند نفس المهندس الآثم، ثم تقلب مشاعرها حتى الوقوع في حبه وتيقنها من حبه لها، ثم عرض الزواج الذي يأتيها من المهندس الذي أغرم بها رغم الفارق الطبقي الكبير حتى مقتلها على صدر المهندس، ورغم أن للكروان دورا صغيرا في تنمية الصراع الدرامى، إلا أن وجوده مؤثر في الرواية فهي تأتنس بصوته وتأخذ منه عهدًا بأن يذكرها كل ليلة عبر صوته وندائه بأختها هنادي التي غدر بها حتى تظفر بالثأر من المجرم، ويظل صوت الكروان يصاحبنا حتى النفس الأخير من تلك الفتاة المسكينة آمنة.

الدعوة التي أطلقها الأستاذ العقاد وتبعه فيها بعض الأدباء والخاصة بنبذ الأوصاف والتشبيهات والاستعارات المنقولة عن المخيلة الغربية والتي لا تتناسب أحيانا مع بيئتنا وظروفنا، أنا معها تماما، وللأسف هي ظاهرة لاتزال موجودة حتى الآن وسط بعض المبدعين الذين تشكلت ذائقتهم من خلال ما اطلعوا عليه من الآداب الأجنبية المترجمة، وليس عبر ملاحظتهم وتراثهم، ويحضرنى في ذلك قصيدة قرأتها لشاعر مصري عن طفل يقود دراجته بينما يتساقط عليه الثلج وهو يمر بالطريق، ثلج ايه يا عم الحاج واحنا في مصر! وبعضهم عندما يكتب واصفا الفلاح المصري تجده نسخة فوتى كوبى من الفلاح الأرجنتينى والكولومبي! ناهيك عن وصف لقاءات العشاق أسفل شجر الزيزفون! أتمنى أن يدلني شخص واحد على شجرة زيزفونة في بر مصر، هذا بخلاف التشدق بفصل الربيع وجماله وبهائه ولعن سنسفيل الخريف وأيامه، بينما خريف مصر من أعظم فصولها من جهة اعتدال طقسه وصفاء جوه خلافا للربيع الذي نقضيه وسط عواصف وأتربة وطقس متقلب لا يطاق..

ونصل إلى طائر الكروان الذي أثنى على صوته العملاقان طه حسين والعقاد، وسار على دربهما الكثير.. أولا طائر الكروان من أشرس الطيور وأكثرها قسوة رغم صغر حجمه، يسلى وقته بكسر بيض الطيور الأخرى في غفلة منها، والمعروف عنه أنه يضع بيضه في شقوق عرضية في الأرض، وهو طائر في منتهى الحيطة والحذر لذا لا يضع بيضه في شق واحد، بل يوزعه على الشقوق، ومنه اشتق علم السياسة هذه الفكرة وعرفوا بها السياسي الحذر بأنه لا يضع كل بيضه في سلة واحدة، ونصل إلى ما رآه الناس ميزة عظيمة فيه وهو صوته الشجي، الصوت الذي يطلقه الكروان ليس المقصود به تسبيح رب الملكوت حسب الاعتقاد الشعبي، ولا مؤانسة المحبين ومواساة المعذبين كما تصور العشاق، صوته هو مجرد صيحات حادة يطلقها في الظلام ليخدر بها الحشرات والطيور الصغيرة ليفتك بها، تماما كنظرات القط التي يصوبها تجاه الفئران فتجعلها تشل في مكانها ولا تقدر على التحرك، باختصار يعني حضرتك تكون جالسا بجوار حبيبتك تتغزل في محاسنها وتتلمس يديها ويمر بك صوت الكروان فتنتشي أكثر دون أن تدرك أن في هذه اللحظة بالظبط سينغرس منقار هذا الطائر في بطن عصفور صغير لم يتعرف على الدنيا بعد.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية