أحسستُ بالألم حين سألتُ فتاة لبنانية فى بيروت، صباح أمس الأول، عما إذا كانت قد زارت القاهرة، فقالت إنها قد زارتها منذ شهور، للمرة الأولى، ولكن انطباع هذه الزيارة الأولى لديها لا يجعلها تحب أن تعود إليها!
سألتها عن السبب الذى يجعلها لا تحب أن تعود إلينا، وأنا أتحسب وأتحفز للرد، فقالت ما يقوله كل سائح تقريباً، بأن القاهرة حالياً لا تُطاق، ليس لأنها قاهرة طبعاً، وإنما لأنها مختنقة مرورياً فى كل ساعة، ولأنها صاخبة أكثر من اللازم، ولأن شوارعها غير نظيفة، ولأن شواطئ النيل فيها ممتلئة بالمخلفات التى تنبعث منها روائح مؤذية!
وكنت أقول، بينى وبين نفسى، إن هذا إذا كان هو حال السائح الذى يملك أن يخرج من القاهرة فلا يعود إليها، ويستطيع أن يجد بدائل لها بسهولة، سواء فى داخل بلدنا أو خارجه، فما هو حال المواطن المقيم فى العاصمة، ولا يجد لها بديلاً، ولا يستطيع أن يغادرها لأنه محكوم عليه أن يعيش فيها مدى حياته؟! هل يكون على مواطن كهذا أن يموت بالبطىء، وأن تتحول حياته فى عاصمة بلاده إلى معاناة مستمرة، فإذا كان مرغماً على العيش فيها، لأنه لا بديل آخر أمامه، فإن معاناته، والحال هكذا، تصبح مضروبة فى اثنين، ويظل يتعذب فى القاهرة، بمرورها، وشوارعها، وتلوثها، ووسائل مواصلاتها، وضجيجها!
وقد كنت أفكر فى أن أقول للفتاة اللبنانية إياها إن بيروت والقاهرة فى الهم سواء، وإن المرور فى عاصمة بلادهم أيضاً يمثل مشكلة كبيرة، لولا أنى تذكرت فجأة أن المسألة مختلفة بين العاصمتين!
صحيح أن سكان بيروت 800 ألف نسمة، ولكن مساحتها مخنوقة، ولا تكاد تكون فى مساحة حى واحد من أحياء القاهرة، ثم إننى كلما جئت إليها أحب أن أعود إليها دائماً، ولا يكون انطباعى عنها سيئاً، كانطباع الفتاة المسكينة، عن قاهرتنا!
ثم تذكرت أيضاً أننى لو قلت لها إن ما يتألم منه السائح فى القاهرة هو ذاته ما يتألم منه فى بيروت، فإنها كمواطنة لبنانية سوف يكون لديها ما ترد به، على مستويين:
أولاً: إننا عجزنا، حتى الآن، عن إقامة منطقة فى القاهرة، تشبه منطقة «سوليدير» فى بيروت، فهى منطقة قديمة، تشبه وسط البلد عندنا إلى حد كبير، وكان الراحل رفيق الحريرى قد تولاها، وقرر أن يعيد إليها الحياة من جديد، بعد أن كانت قد دمرتها الحرب والإهمال، فأعادها فعلاً، وخلق منها حياً متكاملاً ومضيئاً يجعلك تشعر حين تتمشى فيه أنك فى حى من أحياء روما أو باريس،
وكان وهو يفعل ذلك، حريصاً على أن يحافظ على طراز مبانيها القديم، كما هو بالضبط، وكان كل ما قرر أن يفعله أنه أعاد إليها بهاءها الماضى، وكانت النتيجة أنك لا تكاد تجد مقعداً خالياً على مطاعمها ومقاهيها التى تمتد بالمئات، وتزدحم بالسُياح فى كل ساعة من ساعات الليل أو النهار!
ثانياً: إنه منذ أسبوعين كان الناس فى بيروت قد ضجوا من القمامة فى شوارعها وشواطئها، فما كان من الرئيس ميشيل سليمان، ورئيس الوزراء سعد الحريرى، إلا أن نزلا بنفسيهما إلى الشوارع والشواطئ، ومعهما مئات الشباب بالمقشات، وراحوا جميعاً ينظفون مدينتهم، ويدعون الآخرين إلى أن ينظفوا المدينة، كل واحد فى مكانه، وأمام بيته أو محله، فأشرقت بيروت من جديد، وصار الكورنيش فيها آية من آيات النظافة والجمال!
وفى وقت من الأوقات أثناء حكومة الدكتور كمال الجنزورى، كان الرجل قد قرر من خلال الوزير طلعت حماد، أن تكون فى القاهرة «سوليدير» مصرية تسبق مثيلتها فى بيروت، ربما قبل أن تأخذ سوليدير اللبنانية شكلها الحالى، وهو ما حدث وقتها فعلاً، فى منطقة البورصة فى وسط القاهرة، وكانت المنطقة عام 1999 مرشحة للانتقال كالعدوى، إلى مناطق أخرى،
وكان الرجل ينوى أن يحول العاصمة كلها إلى صورة مما كان قد أجراه فى منطقة البورصة التى تحولت فى ذلك الوقت إلى مزار جميل، وكان ينوى إخلاء العاصمة من إسكانها الإدارى الذى يخنقها فى كل لحظة، وكان.. وكان... لولا أنه خرج من الوزارة، فبقيت المنطقة لفترة على جمالها الذى كان قد عاد إليها، ثم استردت قبحها القديم، وصار لسان حال كثيرين، وهم يمرون عليها، يردد ولايزال: القاهرة هى القاهرة، ولكن أين يد طلعت حماد؟!