لكل فيلم هوية قانونية ترتبط بشركة منشأ الإنتاج، وهوية ثقافية ترتبط برؤية صانعه وأسلوبه فى التعبير عنها، أى أن من الممكن مثلا وجود فيلم مصرى لا يعبر عن الهوية الثقافية المصرية، وآخر أمريكى ولكن يعبر عنها، وهكذا.
ويشهد مهرجان كان، المنعقد حالياً، عرض فيلمين فرنسيين روائيين طويلين لمخرجين أفريقيين، أحدهما «تمبوكتو» إخراج عبدالرحمن سيساكو، من موريتانيا، الذى يعرض فى المسابقة، والثانى «رون» إخراج فيليب لاكوتى، من ساحل العاج، الذى يعرض فى «نظرة خاصة».
والوجود الأفريقى حاضر أيضاً بمشاركة المخرج السنغالى موسى تورى فى لجنة تحكيم «نظرة خاصة»، ومشاركة المخرج التشادى محمد صالح هارون فى لجنة تحكيم مسابقتى الأفلام القصيرة وأفلام الطلبة.
أخرج سيساكو، الذى ولد عام 1961 فى موريتانيا، 8 أفلام قصيرة منذ عام 1989، و3 أفلام روائية طويلة هى: «الحياة على الأرض» 1998، و«فى انتظار السعادة» 2002، و«باماكو» 2006. وقد سبق أن عرض له أكثر من فيلم فى مهرجان «كان»، ولكنه يشترك فى المسابقة لأول مرة، ومن الأرجح فوزه بإحدى جوائز المهرجان يوم السبت المقبل.
«تمبوكتو» عمل فنى كبير يعبر عن الهوية الثقافية الأفريقية العربية، ويتناول الموضوع الذى يشغل العالم أكثر من أى موضوع آخر فى عصرنا، وهو الإسلام السياسى، ويعتبر مرافعة فى الدفاع عن الإسلام ضد جماعات العنف التى تفسره على هواها سعياً إلى السلطة، وتسىء إليه على نحو غير مسبوق. وقد جاء هذا الدفاع فى وقته تماماً وكل وسائل الإعلام الدولية تتحدث عن مأساة خطف مائتى تلميذة صغيرة من إحدى المدارس فى نيجيريا بواسطة إحدى تلك الجماعات، والتى تطلق على نفسها «بوكو حرام»، وكلمة بوكو فى اللغة المحلية تعنى التعليم.
التاريخ والحاضر
سجلت هيئة اليونسكو آثار مدينة تمبوكتو، التى تقع فى شمال مالى، ضمن «تراث الإنسانية»، وهى آثار إسلامية من زمن ازدهار الحضارة الإسلامية، ولكن التاريخ لم تعد له علاقة بالحاضر، ففى 29 يوليو عام 2012 قامت إحدى الجماعات المسماة جهادية باحتلال قرية أجولك، إحدى قرى تمبوكتو، وحولت حياة الناس إلى جحيم بدعوى تطبيق الشريعة الإسلامية. ومن وحى هذه الواقعة كتب سيساكو سيناريو الفيلم مع كاسين تال وصوره للشاشة العريضة بالألوان سفيان الفانى، وهو مصور الفيلم الفرنسى «حياة أديل» إخراج عبداللطيف قشيش، الذى فاز بالسعفة الذهبية فى مهرجان «كان» العام الماضى.
الحلال والحرام
إنهم غرباء لا يتحدثون اللغة المحلية، وإنما خليط من العربية والإنجليزية والفرنسية، ولا يتواصلون مع الناس إلا من خلال عناصرهم المسلحة أو «الشرطة الإسلامية»، والمحرمات عندهم تشمل الموسيقى والغناء والقهوة والشاى والتدخين ولعب الكرة، بل والضحك وارتداء الأزياء زاهية الألوان. أما عن النساء فعليهن تغطية الوجه بالحجاب واليدين بالقفازات، وليس فقط الجسد. ويرفض الناس هذا العبث، وكذلك إمام المسجد الذى يعرف الدين الحق، ولكن أعضاء الجماعة يملكون السلاح، ويتسلطون عليهم فى غياب الدولة المدنية الحديثة.
المبنى والمعنى
ويعبر سيساكو عن رؤيته الإنسانية ضد هذه الجماعات الهمجية من خلال أسرة صغيرة تختار الحياة وحدها فى خيمة بالصحراء، وتتكون من الأب كيدان (إبراهيم أحمد)، والأم ساتيما (تولو كيكى)، وابنتهما الصبية تويا (ليلى والتى محمد)، والصبى إيسان (مهدى محمد)، الذى يرعى البقرات الثمانى التى يملكها كيدان. وذات يوم تنفر إحدى البقرات وهى تشرب من النهر وتمزق شبكة أحد صيادى السمك، فيسدد حربته نحو البقرة ويقتلها. وعندما يعلم كيدان يغضب ويذهب إليه حاملاً مسدسه، وأثناء الشجار بينهما تنطلق رصاصة تقتل الصياد، وتقبض «الشرطة الإسلامية» على كيدان، وتحكم عليه المحكمة الشرعية بالإعدام. وقبل أن ينفذ الحكم تندفع ساتيما نحو زوجها، فتطلق الشرطة الرصاص عليهما وتقتلهما معاً. وتبقى تويا وحيدة مع إيسان على أمل الحياة فى مستقبل أفضل.
وما هذه القصة إلا تكأة للربط بين أحداث الفيلم التى تتوالى طوال 97 دقيقة، فالبناء الدرامى على شكل مشاهد- مقاطع تتكامل فى التعبير عن المعنى، ويختلف عن البناء الكلاسيكى الأرسطى ويستمد أصوله من الحكاية الأفريقية. هذه مغنية تعاقب على الغناء بـ40 جلدة، وتقوم بدورها المغنية المالية المعروفة فطومة ديوارا، وهذا شاب يعاقب على لعب الكرة بـ20 جلدة، وهذان رجل وامرأة مدفونان فى الرمال حتى العنق، ويتم قتلهما رجماً بالحجارة لأنهما لم يتزوجا على الأصول التى تراها الجماعة الحاكمة.
ومن المشاهد الدالة مشهد بائعة السمك فى السوق وهى تثور على الشرطة الإسلامية عندما تأمرها بارتداء القفازين وتسأل كيف أبيع السمك بالقفازات، ومشهد الشباب يلعبون كرة القدم ويتخيلون أن لديهم كرة، ومشهد بعض رجال الشرطة يسألون قائدهم عبر الموبايل: هناك موسيقى تعزف وعرفنا أين، ولكنهم يغنون فى مدح الرسول فهل نقبض عليهم أم ماذا نفعل؟
ورغم القسوة والعنف فأسلوب الفيلم شاعرى، أو قل إنه قصيدة سينمائية عن مدى الحمق الذى يمكن أن يصل إليه الإنسان، كما أنه فيلم من الأفلام القليلة التى تعبر عن ثقافة الصحراء بعمق وأصالة، وكان اختيار الشاشة العريضة مناسباً لذلك. اللقطة الأولى قبل العنوان لغزال يجرى على الرمال فى تقاطع مع سيارة عسكرية تحمل علم القاعدة الأسود وتطلق الرصاص، وهى نفسها اللقطة الأخيرة فى الفيلم، لأن الدائرة لاتزال مغلقة.
أما المشهد الأول بعد العنوان فيكثف جوهر المشكلة عندما نرى أحد رجال الجماعة يطلق الرصاص على التماثيل والأقنعة الأفريقية القديمة، أو يتدرب على الرماية باستخدامها، فهم بذلك يؤكدون أنهم غرباء حقاً على ثقافة الناس الذين يريدون حكمهم والسيطرة عليهم، ولا يدركون أن الإيمان بدين معين لا يعنى نفى الثقافة القديمة، وإنما التفاعل معها بالحوار الفكرى، وليس بالعنف ولا السلاح.
[email protected]