x

جمال الجمل أحزان رجل بدين يدعى صلاح جاهين جمال الجمل الإثنين 21-04-2014 20:01


قبل شم النسيم بأيام قليلة في ربيع عام 1985، جلست وحيدا في المكتب بعد يوم عمل شاق، وعند السادسة تماما، أمسكت بسماعة الهاتف الأرضي وطلبت رقم الدكتور ثروت عكاشة، كما أفعل كل يوم تقريبا منذ ثلاثة أشهر.

كنت قد طلبت منه موعدا لإجراء حوار مطول، لكنه اعتذر مؤكدا أنه لا يتحدث للصحافة، ومع تكرار الاتصال والإلحاح على اللقاء صار بيننا نوع من الصداقة والدردشة التليفونية، ووعدني بتحديد موعد إذا وجد ما يستحق أن يقوله.

استمر رنين جرس الهاتف حتى انقطع الخط دون أن يرد أحد، فرجحت أنه سافر لقضاء شم النسيم خارج القاهرة، واستكملت واجبي اليومي بتليفون لصلاح جاهين، وكان صديقي الصحفي الراحل عادل الجوجري (رحمة اللع عليه) قد حاول أكثر من مرة أن يثنيني عن هذه الفكرة، مؤكدا أنه سعى كثيرا لإجراء حوار مع الدكتور عكاشة إلا أنه كان يرفض بشكل قاطع، وبالنسبة لجاهين كان الجوجري يعتبر الإصرار على الحوار جنونا، وقلة خبرة، وتضييع وقت، لأن الفنان متعدد المواهب يعاني منذ فترة حالة اكتئاب دوري، ويتجنب الصحفيين، وبالفعل كانت الردود التي أتلقاها كلها من نوع: الأستاذ مش موجود.. مسافر.. نايم.. في الحمام، وفي هذا اليوم سألني صوت رجالي (طالما سمعته من قبل): نقول له مين؟

قلت كالمعتاد: فلان صحفي وعاوز أسأله عن الربيع

يبدو أن عبارتي الركيكة لمست شيئا في مزاج جاهين، فقال مازحا بنفس النبرة الجادة: أنا صلاح بس الربيع مش موجود.

زاد ارتباكي، وخرجت الكلمات مني بلا ترتيب، وطبعا فشلت في تحديد موعد للحوار، لكنني حظيت بمكالمة استمرت حوالي ربع الساعة هي خلاصة علاقتي المباشرة بالعم صلاح، سألته في البداية عن شم النسيم، فحدثني عن حب المصريين عموما للحياة، وأنهم يحتفلون مثل كل الشعوب بصحوة الطبيعة وتفتحها وموسم خصوبتها، وقال إن تلوين البيض، وأكل الفسيخ والترمس والخس والبصل، تعكس طريقة المصريين في الاحتفالات عموما، مشيرا إلى أن أعيادنا جميعا هي مواسم للأكل والبهجة، فنحن نخصص لكل عيد أكلات مميزة عن الآخر، واستفاض في شرح هذه الملاحظة تاريخيا، وقال إنها تأتي من معاناة المصريين في الحياة اليومية، ولذلك جعلوا أعيادهم مناسبات لتعويض الحرمان، وتحقيق الإشباع.

وتلقفت كلمة "المعاناة" باعتبارها مصادفة وسألته: وهل حضرتك أيضا تعاني؟

فقال بجدية: كل الناس بتعاني.. المعاناة مش بس من الفقر والحرمان، المعاناة إحساس إنساني عند الجميع.

سألته: وماهي أكبر معاناة تعرضت لها؟

قال: وده علاقته إيه بتحقيقك عن شم النسيم؟

قلت: أنا يهمني صلاح جاهين أكثر من شم النسيم

قال: انت ولد ذكي وصادق، وتحدث بكلام فلسفس عام عن معاناة الإنسان مع الزمن ومتغيراته، وقال إن الحزن موجود في كل وقت، لكن البني آدم في لحظات القوة يقدر يلونه كما يحب، وفي أوقات العجز يكتفي بالشكوى.

وسألته: هل كان سعيدا في الستينات أكثر؟

قال: في الستينات كنا بنلون البيض، وبعدين شكلنا اتصدمنا وزعلنا لما وقع من إيدينا واتكسر، مع إن الدنيا ماخلصتش، الحكاية كلها مرتبطة بأد إيه عندنا أمل وأد إيه بنحلم، وأنا طول الوقت بحاول أزرع أمل، لكن الظاهر الناس في الزمن ده بقت تدور على حاجات تانية مزغللة عينيها عن الأمل والسعادة، وعن الحياة نفسها.

قلت: هل ده تأثير الانفتاح أم نكسة 67

قال: بلاش كلام الإنشا اللي بيتكرر زي الاسطمبة ده، لأن المعاناة والحزن، والأمل والحلم مش قرارات حكومة، دي مشاعر بدأت مع البني آدمين وهتستمر معاهم للآخر، ومش مرتبطة بالسياسة، ممكن جنابك تنهزم وتفضل بطل وعندك هدف، وممكن تنتصر وتبقى طاغية أو مغرور، الهزيمة مش في الحرب.. الهزيمة في الحياة.

قلت: وهل أصبحنا مهزومين في الحياة؟

قال: يعني

قلت: هل صحيح فيه نقطة سودة فى قلبك بدأت تبان؟

قال: انت خرجت عن موضوعك وفتحت مواضيع ماتنفعش في تليفون

قلت: عندي كلام كتير عاوز أعرفه من حضرتك

قال: اتصل وقت تاني، وخليك دلوقتي في شم النسيم، وفرحة الطبيعة والناس.

كان صوت جاهين عاديا، لم يكن مشرقا كما سمعته في بعض حواراته الإذاعية، لكنه لم يكن يائسا أو متجهما، كانت مفرداته عادية وتعبيراته هادئة، لم يهتم باستشهاداتي من الرباعيات، ولم يتجاوب مع التعليقات الطريفة التي كنت أحاول أن أطيل بها الحوار.. كان يحدثني باحترام و ود، لكن الحميمية غائبة، والمشاعر "محبوسة" أو بتعبير أدق "محسوبة" داخل إطار عملي بارد يذكرني بأدائه التمثيلي مع فاتن حمامة في فيلم "لاوقت للحب"، بعد أن اكتشف أنها تحب حمزة (رشدي أباظة)، ولم تنتبه لمشاعره.

وفي شم النسيم التالي كان جاهين على موعد مع الخلود، لكن حواري معه لم يتوقف، فقد استمرت علاقتي بمسيرته الإنسانية، ومنجزه الإبداعي كرسام وشاعر وسينمائي وفيلسوف حياة.

لم أصدق يوما أنه اكتأب، لأنه شعر من داخله أنه شارك في خدع الناس بأغانيه عن ثورة يوليو، ثم استفاق مع صدمة النكسة، لكنه اكتأب من مزايدات الآخرين عليه وعلى مصر كدولة مستقلة، صاحبة قرار ومصير، بل أن هناك من اعتبر أغانيه المبهجة لسعاد حسني (مثل "بمبي"، و "ياواد يا تقيل") تعبيرا عن سقوط مشروعه السياسي واتجاهه للهلس، بل وهناك من اعتبرها انتقاما من أغانيه الوطنية السابقة، لكن هذا التشفي هو الذي كان يوجع قلب صلاح جاهين في نهاية السبعينات، وقبل الجراحة التي أجراها فى صيف 1981 كتب الرباعية التي اشرت إليها في مكالمتي معه "يامشرط الجراح أمانة عليك/ وانت فى حشايا تبص من حواليك/ فيه نقطة سودة فى قلبى بدأت تبان/ شيلها كمان.. والفضل يرجع اليك/ عجبي".

لم تأت "النقطة السودة" من الهزيمة في سيناء، ولكنها جاءت من الهزيمة في الحياة، من التحولات التي أساءت إلى اسم مصر ومستقبلها، وهو ما سجله قولا وشعرا بوصوح في أكثر من مناسبة، أهمها ديوانه "أحزان سبتمبرية" الذي تغير عنوانه عند النشر إلى "أنغام سبتمبرية"، وكتب فيه ملحمته "على اسم مصر" وتغزل شوقا وحبا في عبد الناصر "كان لي صديق/ وكان حبيب عمري/ هو اللي علمني المشيب بدري/ حضرت مولد كل شعراية بيضا/ عبرت سوالفه كما الشهاب تجري (..) بالشعر لابيض كان يعلمني/ أستاذ تاريخ وفي التاريخ أستاذ/ قابلته من عشرين سنة وكلمني

وأنا لسة باحبي في الظلال/ علمني مشية الرجال/ سلمني راية النضال

ولحد هذا اليوم بيلهمني/ وخياله كل ما اقع يقومني/ وكل ما اتبعتر يلملمنى"

هل هذه مشاعر رجل مخدوع في عبد الناصر؟.. وما الذي يضطره أن يكتب شعرا بعد موت قائد مهزوم عسكريا يقول فيه: "وحشتنا نظرة عيونك للبلد ياجمال"؟ ما الذي يضطره للتفاعل مع كل الإحداث الوطنية التي جرت بعد النكسة فيكتب عن قصف شدوان، وبحر البقر، وأبو زعبل، ويتغنى بنصر أكتوبر، مستخدما تعبير عبد الناصر "ما أخذ بالقوة لايسترد بغير القوة"، لكن السلطات تمنع هذه الأغنية التى قدمتها سعاد حسنى من ألحان كمال الطويل؟، مالذي يدفعه للاحتفاظ بصورة عبدالناصر على جدران منزله؟.

لم اسأل جاهين في مكالمتنا الوحيدة عن هذا الموضوع، لكني أعرف إجابته وأثق فيها، لقد تمنى الفنان البدين من كل قلبه أن يرقص باليه، لكن "آدي الي كان وآدي القدر وآدي المصير"، فلم يستطع أن يحقق هذه الأمنية، يمكن أن يتذكر ذلك ويحزن، لأنه كان مخلصا في أمنيته، كما كان مخلصا لمصر الحرة القوية المستنيرة، ومن هذا الإخلاص شعر بالحزن على عدم تحقق أمنياته بإقامة "تماثيل رخام ع الترعة، وأوبرا في كل قرية عربية"، لكنه لم يسقط فريسة لليأس من الثورة ومن تقدم مصر، وشعر جاهين بصدمة عنيفة عندما فوجئ ذات صباح بصحيفة الاهالي اليسارية تقدم حواره بهذه العبارة : "أخيراً كشف صلاح جاهين ل"الأهالي" أنه كان يعيش طوال الستينيات في أكذوبة كبيرة"، واتصل يعاتب مسؤول التحرير الذي اعتذر له، ثم فوجئ بالعدد التالي يخلو من اي توضيح أو اعتذار، فجلس يكتب ردا تحتفظ العائلة بنصه حتى الآن، وصف فيه العبارة بأنها "أقوال غير صادقة تمس إخلاصي وانتمائي السياسي"، وأضاف: "إنني مؤمن بثورة 23 يوليو إيمانا لا يتزعزع، ومؤمن بعبد الناصر ومحب له كمؤسس لمصر الثورة، ولكنني تعلمت ودفعت غاليا لأتعلم انه في كل العصور، وحتي في عصر عبدالناصر، كانت هناك الفئران التي تنخر في أساس البناء، وأن الذي لا يلتفت وينتبه إليها، يحدث له ما حدث لي من صدمة واكتئاب وندم وضياع.. ربما لا يفهم الشبان هذا الألم، لأنهم لم يصادفوه، وأرجو ألا يصادفوه، وإن صادفوه، أرجو بدلاً من أن يكتئبوا أن يواصلوا النضال".

لقد رحل جاهين في مثل هذا اليوم منذ 28 عاما لكن رسالته تبدو اليوم باعتبارها "الوصية الضرورة" لحص الشباب على التمسك بالنضال من أجل أي ثورة تحقق الكرامة والحرية والعدل الاجتماعي، وأختتم المقال بهذه المقتطفات:

* طال انتظاري للربيع يرجع/ والجو يدفا والزهور تطلع/ عاد الربيع عارم عرمرم شباب/ ايه اللي خلاني ابتديت افزع؟/ عجبي.

* أنا قلبي مليان حماسة/ لكل شيء حر صادق/ ما ليش كتير في السياسة

لكن باحب المباديء.

* الفجر طالع مين يحوشه من الطلوع/ ويا شعب يا ممنوع يا ويل من يمنعك/ الله معك.. الله معك.. الله معك.

* أمانه ياللى على باب الانتخاب داخل/ من قبل مسك القلم، والخط، تتماهل/ اسأل ولادك، فى سرك: بكره عاوزين إيه؟/ الحكم يظهر، وتلقى الحل بالساهل.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية