0.02 % هو إجمالى الإنفاق على البحث العلمى فى مصر، تلك هى النسبة التى أعلنت عنها المنظمة العربية للتربية والثقافة خلال منتدى علمى عقدته فى بداية الشهر الجارى، لتضع المنظمة مصر فى مقدمة «الدول الفاشلة» فى التعليم، مقارنة بإسرائيل التى تنفق على البحث العلمى 4.7% من إجمالى ناتجها القومى والولايات المتحدة التى تنفق 2.5%، واعتبرت المنظمة أن إنفاق هذه النسبة فى مصر يعتبر إهدارًا للمال العام. ورغم أن الدستور الجديد نص فى المادة 23 أن الدولة تكفل حرية البحث العلمى وتشجيع مؤسساته وترعى الباحثين والمخترعين وتخصص له نسبة من الإنفاق الحكومى لا تقل عن 1% من الناتج القومى تتصاعد تدريجيا، فإن مصر وفقا لإحصاءات الاتحاد العام للمصريين فى الخارج تحتل المركز الأول فى هجرة العلماء منها حيث هجرها حوالى 86 ألف عالم حتى العام الماضى.
ما بين عقول مهاجرة وضآلة إنفاق على البحث العلمى تحالفت كل تلك الظروف لتلقى بظلالها على واقع مرير يعيشه كل من يحاول اختراق مجال البحث العلمى، ليحمل لقب عالم، فمنهم من اضطرته الظروف للعمل فى الفاعل لكسب قوت يومهم، وتوفير الدخل اللازم لإعانتهم على استكمال مسيرتهم البحثية، فى حين نجد أن من أسعدهم «الحظ» وتمكنوا من التعيين على قوة المركز البحثية يعيشون ظروفا صعبة انعكست على واقع معيشتهم الأسرية. «المصرى اليوم» التقت عددًا منهم داخل منازلهم وفى مراكزهم البحثية ومقار عملهم فى المنازل، حيث يعمل بعضهم فى لصق السيراميك أو بناء المنازل لترصد معاناة أهل البحث العلمى فى مصر.
«المؤهل ليسانس حقوق.. الدرجة العلمية ماجستير فى القانون الجنائى..المهنة بنا»، ذلك هو التعريف الذى قدم به مصطفى محمد نفسه، ممسكاً بشهادته فى يد وفى الأخرى المسطرين والكوريك، اللذين كانا سبباً فى حصوله على تلك الدرجة العلمية.
هنا فى «عزبة خير الله» إحدى المناطق العشوائية فى قلب القاهرة، التى نزحت إليها آلاف الأسر، بحثا عن مأوى لهم ولأطفالهم، بعد أن فشلت الدولة فى توفير السكن الملائم. من بين 6 صبية نشأ «مصطفى» على يد أم ربة منزل وأب يعمل فى حرفة البناء، لا يتقن غيرها، لكنه كان يعى أن الدولة التى عاشت لعقود من الزمن تدير ظهرها لتك الأسر البسيطة لن تلتف لها فجأة ليسعد حالها، فما كان أمام الأب سوى اصطحاب الصغير فى سن مبكرة للعمل معه فى تلك المهنة الشاقة:«هتكون أحن عليه من قسوة الزمن».المزيد
فقر القرية التى ولد فيها وجهل معظم أهلها بسبب ظروف معيشية صعبة فى الصحة والتعليم والعمل؛ أجبرت أغلب سكانها على الخروج مبكرا للبحث عن عمل لتوفير قوت يومهم. قرر كريم نبيل أحد أبناء قرية «أبو الخير» بمحافظة المنيا، تحدى واقعه بالوصول لأعلى الدرجات العلمية، بدأها بتخرجه فى كلية الحقوق جامعة أسيوط عام 2011، ثم البدء على الفور فى تحضير رسالة الماجستير فى العلوم الإدارية بعنوان:«طرق إبرام العقود الإدارية».
بدأ كريم دراساته العليا بتحضير دبلومة فى القانون العام، والتى حصل عليها بتقدير جيد جداً، وأخرى فى العلوم الإدارية بتقدير امتياز، وهو التقدير ذاته الذى حصل به على شهادات معتمدة لكورسات فى اللغة الإنجليزية وعلوم الحاسب الآلى.
كريم سعيد بمهنته كعامل سيراميك التى «لولا الأجر بتاعها ما حصلت على أى شهادة منها». هجر كريم بلدته فى سن مبكرة: «أقعد ليه هو فى حد هناك عارف يشتغل الصعيد هناك مدفون دفنة سوداء، ده حتى أخويا الكبير خريج علوم هو اللى بيرعى الأرض بعد والدى».المزيد
موظف بالأجر، يوميته 5 جنيهات، محروم من رصيد للإجازات والأعياد الرسمية والأسبوعية وإذا حصل عليها فهى مخصومة من راتبه، بكل تلك الشروط التحق الدكتور أيمن يسرى، الباحث فى مركز البحوث الزراعية بالمركز ليكمل مسيرته البحثية بعد تخرجه.
خمس سنوات متواصلة كان يتقاضى فيها الدكتور أيمن 150 جنيها، لم يكن ينظر لقيمتها، لأنه لو كان ينظر إليها:«ماكنتش أخذت الماجستير ولا بدأت أحضر للدكتوراه ولا كنت أتجوزت ولا حتى خرجت من بيتى من الأساس».
ظروف مادية لا تليق بقدر باحث على الإطلاق تحدتها إرادة خرجت برسالة علمية توصلت لأول مرة لنوع من الفطريات تستخدم فى المقاومة الحيوية للأمراض النباتية، دون أى ضرر للإنسان، أعطت نتائج أفضل من الأسمدة. حصوله على الماجستير كان المبرر الوحيد لزيادة راتبه من 150 إلى 210 جنيهات: «أنا على كده أحسن من غيرى مرتبى زاد بعد 5 سنين فى ناس فضلت 10 و15 سنة بالـ 150 جنيها».المزيد
45 جنيها كان هذا هو إجمالى الراتب الذى ظل يحصل عليه الدكتور محمود محمد، الباحث فى معهد بحوث أمراض النبات قسم الزينة العطرية، منذ التحاقه بالمركز عام 2003 وحتى فترة بسيطة من حصوله على درجة الماجستير فى المركز عام 2007. قد يكون الرقم صادماً لأى باحث يقف أمام صراف الخزينة ليتقاضى راتبه إلا أن الدكتور محمود كان ينظر له بمنطور آخر: «كنا بنتلهف عليهم وبنحمد ربنا أنهم جم الخزنة، لأننا كل 3 أو 4 شهور بنقبض مرتب شهر قديم». لسنوات طوال ظل يحلم الدكتور محمود وزملاؤه باليوم الذى يزيد فيه راتبهم: «مرة زاد لـ 65 جنيها ومرة رفعوه لـ 125 جنيها، لحد ما وصلوا لـ210 فى آخر 3 سنين».رغم الظروف الصعبة التى واجهها الدكتور محمود منذ التحاقه بالمركز إلا أنه قرر البدء فى مسيرته البحثية منذ أن وطأت قدمه هذا الصرح البحثى، وشرع فى تحضير رسالة الماجستير تحت عنوان:«مكافحة أمراض عفن الجذور التى تصيب نبات البردقوش»، وهى الدراسة التى توصل من خلالها إلى مستخلص من نبات الكافور يمكنه علاج عفن الجذور ويمكنه زيادة الإنتاج والمجموع الخضرى.المزيد
أحمد فتحى منسق حملة الماجستير والدكتوراه دفعة 2013»، وهى الدفعة الأخيرة التى لم تلحق بالتعيين الحكومى أسوة بباقى الدفعات التى انتهت معاناتها بالتعيين بعد ثورة يناير، أكد أن عدد تلك الدفعة يبلغ 2500، وهى الأعداد التى حصرتها أكاديمية البحث العلمى، منهم 2010 حاصلون على الماجستير والباقى دكتوراه.
اضطر هؤلاء الشباب للعمل فى تلك المهن المتواضعة كى يتمكنوا من توفير نفقاتهم الخاصة، وتكملة مسيرتهم البحثية فى ذاك الوقت وقال: «رغم أن التعيين لن يحقق لهؤلاء الشباب المستوى المادى والاجتماعى الذى يستحقونه كحملة دراسات العليا إلا أنه أبسط حقوقهم الأدبية، التى ينبغى ألا تتجاهلها الدولة، خاصة أنه بداية حقيقية لوضعهم على أولى خطوات المسار العلمى الصحيح لتخصصاتهم، بما يفتح لهم المجال للمزيد من البحث والدراسة».المزيد