x

ماجدة الرومي: مصر قابلت أحداثًا جسام لكنها تمضي كالنهر مرفوعة الرأس (حوار)

الثلاثاء 01-04-2014 12:07 | كتب: مفيد فوزي |
حفل ماجدة الرومي بمكتبة الإسكندرية حفل ماجدة الرومي بمكتبة الإسكندرية تصوير : حازم جودة

الإسكندرية

لا أظن أنى ابتهجت حتى التحليق مثلما ابتهجت فى تلك الليلة من ليالى الإسكندرية فى بقعة حبيبة هى مكتبة الإسكندرية. عامين ونصفاً لم أعرف طعم السهر والسمر إلا حين جاء هذا الهدهد الصداح «ماجدة الرومى»، فقد أدخلتنا مدن الفرح، وحين وقفت على المسرح بكبريائها الحنون وتكلمت قبل أن تغنى، أصغينا لها بجوارحنا.. جسدها النحيل، خرجت منه كلمات ليست كالكلمات، سيطرت على المكان حتى دوى الصمت.. سنوات ستة غابت عن مصر وجاءت وفى صدرها الشوق كله هى كتلة من التحفظ ولكنها غامرت وطارت مع فرقتها الموسيقية إلى مصر مهما كانت ظروفها الأمنية. دخلت ماجدة مصر بسلام وغنت للسلام ودعت للسلام. بثوبها الأبيض كانت تبدو كحمامة تقف على برج الحمام فى ساعة مغربية، دخل صوتها الأذن المصرية دون استئذان فالناس يرددون أغانيها بمجرد سماع المقدمات الموسيقية. لا أظن أنها رأت أحداً فى المسرح الذى احتوى بضعة آلاف من الحاضرين صاروا كتلة، وهى ترى أمامها هالة ضوء ولا تفسر وجوهاً. اختلطت الأضواء، فلم نعرف الشادية من السميعة، هى تشدو بكل جمال كيانها والناس يتمايلون وكأنهم يجلسون على كراسى موسيقية. لم أسمع كلمة نابية أو تعليقاً قفز فوق سور الاحترام. على العكس تماماً، شق أحدهم الصمت وقال «عظمة على عظمة يا ست». انحنت فى تحية لقائل التحية. شعرت بخجل وحين يداهمها الخجل تعبث بشعرها فى حركة تلقائية. سر خجلها أنها تعرف أن هذه التحية كانت تسمعها فقط كوكب الشرق أم كلثوم فى تجلياتها. أغنية وراء أغنية والجمهور الحاضر «ينهل» من نبع شديد الصفاء ولا يرتوى وفى لحظة تغنى «أحلف بسماها» ثم تشبك صوت عبدالحليم بصوتها بلهجتها اللبنانية وكأنهما ثنائى مفترض فغنينا معها. أحياناً تقف ماجدة الرومى أمام الميكروفون وتشدو وأحياناً أخرى تلتقطه وتتحرك به على المسرح تبثه أشواقها لمصر واشعر بأنها فى حقل قمح تتجول بين السنابل لكنها فى كل الأحوال فراشة بأجنحة ملونة.

بعد الحفل لم أنطق بكلمة. فالغناء الفصيح لا يقبل التعليق ويكفى شبع الأذن الجائعة لشدو واحدة من «القبيلة الفيروزية» وصارحتها مرة بهذا الوصف فوضعت يديها متشابكة على صدرها امتناناً. خرجت الآلاف من مكتبة الإسكندرية التى أضافت إلى «معارفها وثقافتها» صوتاً مثقفاً كأنه ترتيلة فى هيكل الغناء وبقى فى رأسى سؤال: هل كانت ماجدة الرومى تصلى أم تغنى؟

بيروت

قبل أيام والسؤال الذى ما برح ذهنها هو: ماذا أقدم لأهلى فى مصر. كانت كما تعترف لى وأنا فى غرفتها فى الفندق المطل على نيل القاهرة «كنت قلوقة ولست قلقة» ماجدة من جيل مختلف فهى مطربة تفكر وتغنى. تقول لى «المسؤولية أرهقتنى طوال السنين، كل شىء عودنى والدى أن آخذه بجدية ومن هنا روح المسؤولية». لما سألتها ماذا تفعلين فى غرفتك منذ وصلت؟ فاجأتنى: سهرت الليل كله محدقة فى النيل ولا أمل النظر، ولا أعرف سوى الطاقة الإيجابية التى يمنحنى إياها. شىء غريب أن تحدق فى ساعات الليل إلى مياه تجرى أمامك ولا تتوقف عن الجريان. تنقل لك أهم المعانى وهى أن مصر قابلت الأحداث الجسام وتمضى كالنهر مرفوعة الرأس. قلت لها: متى تنامين؟ قالت فى مصر أنام عند الفجر قلت مستدركاً: وفى بيروت؟ ضحكت ماجدة الرومى وقالت بخجل الأنثى: أنام كالأطفال التاسعة مساء وأصحو فى الخامسة صباحاً على مسؤولياتى كأم وأنشطة أخرى! قلت: ماجدة الرومى تنام فى التاسعة ولمن تتركين الليل؟ وقرأت فجأة الشجن فى عينيها وصمتت برهة قبل أن تردد سؤالى «ولمين تتركين الليل؟» وقبل أن تجيب سألتنى: هل طاف بخيالك أنى أنام فى التاسعة؟ قلت لها: لا أحد يصدق ذلك إن أعظم وأجمل أفكار الفن خبأها الليل بين ستائره. قالت: فى بيروت من فرط الضغوط أنام فى التاسعة. هل عرفت الآن لماذا أسهر فى القاهرة حتى الفجر أحدق فى النيل، أنا محرومة من الليل وبالتحديد ليل القاهرة حيث ولد أجمل ما غنت أصواتكم وأعذبها. حدثنى عن عبدالحليم وكيف كانت مغامراته الليلية مع المؤلفين والملحنين وحبيباته. احك لى عن أحمد رامى وأم كلثوم عندما يأتى المساء. وهل كان عبدالوهاب يسهر، كلمنى عن مجنون الليل بليغ حمدى هذا الجين النادر فى دنيا المزيكة قل لى هل خلافات ليلى مراد وأنور وجدى حجبتها عن الغناء. زدنى علماً هل تنام نجاة مبكراً مثلى، هل كان عبدالحليم ونجاة يتنافسان على قصائد كامل الشناوى أين تجتمعون كفنانين فى فندق فى مقهى فى بيت أحدهم. أرأيت الآن عطشى لمعرفة أسرار ليل القاهرة. تدفق ماجدة الرومى فى الكلام أخرسنى، فقد شعرت بلحظة صدق نادر أثارها مجرد سؤال: متى تنامين فى بيروت؟

قالت ماجدة: قبل حضورى إلى مصر كنت عند أول النهار أقوم بتدريبات رياضية قاسية أفرضها على نفسى حين أستعد للغناء تفتح عضلات الصدر والمسام بقوس مشدود، هكذا تعلمت وتدربت وأجريت بروفات يومية لمدة 6 ساعات، هكذا تعلمت وتدربت وخضعت لنظام غذائى كامل لنوعية وجبات بلا دهون.

وكنت أعلم أنى سأسافر إلى القاهرة الذوق والفن والجمال قلت: كيف رأيت السميعة فى مصر؟ قالت: بهرونى بهذا الإصغاء الحلو. قلت: ما أبرز سماته؟ قالت: قادر على التمييز بين الأصوات، الجمهور أستاذ مفيد أبوحنان- شهادات الجمهور مالها مثيل، إنها الاعتراف أو اللاعتراف، ينجح الفنان أو يفشل عندما يأتى للاختبار العفوى فى مصر.

فى غرفة الفندق

قلت لها: لبنان المحبة قالت: خربتها الحروب وقصمت وسطها الخلافات والجبهات قلت: ماذا يعكر صفو لبنان؟ قالت: الأنانية السياسية ومحركات من خارج لبنان المحبة. قلت: لكنكم تغنون وتقاتلون؟ قالت: معلوم، هذا هو الشعب اللبنانى قلت: اللبنانى مقاتل بالصبر. قالت ماجدة: ما أحلاه وصفاً. قلت: حريصا فوق الجبل. زيارتى المفضلة كلما زرت بيروت قالت: سيدتى الله يحمينا. قلت: هناك حزن دفين فى عينيك قالت: أقهره بالغناء. قلت: أنت المطربة القادرة على التعبير بسلاسة والمتذوقة للكلمة. واختياراتك لما تغنين شهادة على ذلك. قالت: شربت كثيراً من دواوين الشعر. تذكر أن أحلى هدية لى ديوان شعر. قلت: ما حقيقة زيارتك للإسماعيلية لمقابلة الخال الأبنودى؟ قالت: خبر صحيح، وعندى رغبة أن أتعاون معه فهو من جيل عظيم وكتب لأجمل الأصوات المصرية قلت: صور الأبنودى الشعرية غنية وفيها تراب مصر ونيلها وصبايا القرى وحنين الصعايدة، فأنا أقف مذهولاً عند كلماته لعبدالحليم فى «عدى النهار» هتفت ماجدة وقد لمعت عيناها. «الحماس يترجمه لمعان العينين» وقالت: أوافقك، وهل تعرف ظروف كتابتها؟ قلت: كل الذى أعرفه أنه انفعل ذات ليلة وكانت أيام الهزيمة ولحظات الانكسار وكتبها ولكن لماذا تسألين عن ظروف الكتابة؟ قالت: هذه لحظات غالية حين تسقط ثمرة من شجرة القريحة وللعلم لقد سألت نزار قبانى نفس السؤال فقال: أنا لا أكتب قصائدى إنما قصائدى هى التى تكتبنى! قلت: صارحينى: لقد غنيت قصائد نزار فى حفلك، فهل تجاوب معك الناس؟ قالت: جمهور مصر سمعنى بقلبه فى مدينة الليل والنهار القاهرة ولا تنس أننى صليت وطلبت الرضا عنى قبل النجاح فأنا فى بلد الكبار قلت: كيف ترين مؤسسة الزواج؟ قالت: عندما تموت الصداقة تسقط المؤسسة وبقدر الحب تقف أعمدة المؤسسة ولكن الحمد لله. قلت: ماذا يحد الفنان من التحليق بأجنحته؟ قالت: الفنان نفسه التزام وتصرفات محسوبة عليه. الفنان ابن زمانه أعطاه الله نعمة ليصونها فإذا لم يحسن صيانتها أخذها الله منه والتاريخ يروى لنا حكايات داليدا وماريا كالاس، الفنان مؤسسة وليس فرداً، وأى عنصر يؤثر سلباً على طيرانه وقد يقتله، عندما أقرأ حياة ماريا كالاس أفهم- كفنانة- سبب الوجع فى حياتها مما يصيبنى بالوجع. تأمل حياتها عندما حاولت أن تقنع أوناسيس بالزواج منها، فرفض رغم سنوات قضتها معه ثم اختار جاكلين كيندى.. زوجة تركها فى العراء فما عادت تصلح امرأة وما عادت مغنية قلت: ماجدة هل اعتزلت الغرام؟ وضحكت ضحكة عالية من قلبها وقالت: يبدو أن الله سمع نيتى فشاء أن يجعلنى أعتزله بحق. قلت: ألا تسمعين كلاماً جميلاً وغزلاً عفيفاً؟ قالت: أسمعه من جمهورى وأعترف لك هناك كلمات أسمعها كالبرق. حروف خاطفة ولكن لها صفة الاستمرار فى قلبى قلت: لماذا زرت قبر يوسف شاهين؟ قالت: واحد من كبار مصر فى الفن وأعطانى فرصة نادرة فى السينما وكنت أشعر بأنه منجم فن، رحيل يوسف شاهين خسارة للأمة العربية وليس مصر فقط. قلت: بمناسبة الكبار هل تسنبطت أم كلثوم. قالت: هى أم كلثوم مع السنباطى وعبدالوهاب وبليغ. هى القامة الشامخة، النهر الذى استوعب ألحان «هادول الكبار». قلت: هل أنت طلة أم حضور؟ قالت: أنا حالة شعورية قلت: ماذا يجعلك تنتشين من كلمات؟ قالت: أفرح بالقصيدة المولعة. أنا أكره الفتور والفاترين أحب من يشعل رأسى بالغناء، قلت لك المولعة حيث أنسى نفسى وبناتى والكون كله إلا «ها القصيدة».

فى العشاء

طلبت ماجدة الرومى فى العشاء «سلطة سيمون» فأتى لها بسمك سيمون مشوى فقالت له «من فضلك» ثم همست فى أذنى «ما بدى سمك، بدى سيمون فيمه» وطلبت ماء ليس مثلجاً. قلت لها: كم وجبة فى حياتك؟ قالت: اثنتان فقط. قلت: لماذا قليلة الظهور فى مجتمعات بيروت؟ قالت: أنا بيتوتية. قلت لها: ما علاقتك بساكنة جبل أنطلياس؟ تقصد الست فيروز؟ علاقة إعجاب واحترام وقدوة. قلت: هل أنت متصالحة مع نفسك؟ قالت: ليس تماماً. قلت: ما أحب المدن إليك؟ قالت دون تفكير: روما، متحف كبير بحواريها الضيقة ومحلاتها الأنيقة وميادينها المحلاة بالتماثيل «روما بتأخد عقلى» وأحب ريف إيطاليا وتذكرنى بلبنان قبل الحرب أنها لا تفرض علىَّ جمالها وهذا مصدر الجمال. قلت لها: على من تربيت من الأصوات؟ قالت: على يد الكبار ولعلك تندهش لو قلت لك كنت أسمع وأنا طفلة بانتظام برنامج الأستاذ فاروق شوشة لغتنا الجميلة وكان أبى يحرضنى على تذوق الفصحى أتذكر اختيارات فاروق شوشة للقصائد يتلوها بصوته الرخيم. قلت: ماذا تبقى فى رأسك من أيام طفولتك؟ قالت: صوت أبى وهو يسمع مع أصدقائه ليلى مراد وهى تغنى رايداك والنبى رايداك، ويصرخ من صفاء صوتها: الله.. الله! قلت: هل تعشقين الأماكن؟ قالت: تسكننى والدليل أنى اخترت نفس الغرفة التى أبيت فيها من 5 سنين ونفس ذات الفندق.

قلت: هل نصف وزنك إيمان؟ قالت معترضة: بل كلى إيمان ما طلبت شيئاً من الله إلا واستجاب. قلت: الناس تحبك وتحترمك. قالت: «بدى الاحترام قبل الحب» قلت: فنان محترم يعنى إيه؟ قالت: كل تصرفاته فى النهار وأنا صديقة النهار. قلت: لك آراء فى الأصوات؟ قالت: كل صوت له طعمه.

قلت: الجميلة أنغام؟ قالت: صوت حنون. قلت: القوية أصالة؟ قالت: صوت قادر. قلت: الغندورة إليسا؟ قالت: صوت جميل. قلت: الراقية ديانا حداد؟ قالت: صوت جبلى قلت: المصرية شيرين؟ قالت: صوت لا يستأذن «يمرق فيك». قلت: هل كان الغناء هدفك منذ صباك؟ قالت: «ما فى غيره». قلت: لماذا راهنت على الغناء؟ قالت: نعمة الصوت «منحها الله لى» كيف أبددها؟ قلت: تصلين فى أوقات الشدة؟ قالت: وفى أوقات الفرح ودون أوقات الشدة، لن أتذوق طعم الفرح. قلت: ماذا يمثل فيلم «عودة الابن الضال» لك؟ قالت: قطعة من عمرى.

صمتت ماجدة الرومى وتنهدت تنهيدة من عمق الروح فرضت سؤالى: ماجدة! ردت بعد ثوان: نعم قلت: هل هناك ما هو مخبوء بين ضلوعك ولا نعرفه؟ قالت نغم العرب، عصفورة لبنان، الهدهد: كتيييير!

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية