x

حسن حنفي ثـورة أم رشـوة؟ حسن حنفي الأربعاء 19-03-2014 20:56


قد يتشابه اللفظان صوتيا باستثناء الثاء والشين ولو أنهما قريبان. فاللغة العربية لغة اشتقاقية بطبيعتها. ويمكن رد الأسماء كلها إلى أصول ثلاثية. أما من حيث المعنى فهما متضادان. فما أبعد الثورة عن الرشوة، وما أبعد الرشوة عن الثورة. وهما فى الواقع متعارضان. فالثائر لا يقبل الرشوة ولا يعطيها. والمرتشى لا يثور ولا يقبل الثورة من غيره. والواقع الاجتماعى هو الذى يجعلهما أحيانا متلازمين أو متقاربين أو قرينين. فإذا أكثرت الحكومة من الكلام، وزادت من الوعود، وقللت من الأفعال، ولم تنفذ ما وعدت ثار الناس الذين أحضروها وصوتوا من أجلها أو ارتشوا كى يتكيفوا مع مصاعب الحياة بأنفسهم بعيدا عن رواتب موظفى الحكومة. فمن الطبيعى أن يكون كلام الحكومة أكثر من فعلها. ومن الطبيعى أيضا أن الذى يفعل يفعل فى صمت ولا يتكلم. ولما كان الناس يحسنون التحايل احتالوا على الحكومة كما احتالت الحكومة عليهم. وحاولوا حل مشاكلهم بأنفسهم بالثورة أو بالرشوة. وقد استمر ذلك بعد ثورة يناير 2011 بصرف النظر عن لون الحكومة.

وهذا ما حدث الشهر الماضى بإضراب موظفى الشهر العقارى. ولا يعنى الشهر هنا ما يقترن باليوم والأسبوع والعام، بل الإشهار أى الإعلان. و«العقارى» نسبة لعقار أى ملكية. والفقراء لا شىء لديهم يخفونه كى يشهروه إلا عشش فى العشوائيات التى يراها الجميع والتى تسع الناس دون حد أعلى ودون ملكية خاصة ولا عامة. فأرض الله واسعة. ولا يترك رئيس المكتب إلا موظفا واحدا لقضاء مصالح الناس من الطبقة المتوسطة والذين لديهم ما يملكونه أو ما يورثونه. ويقف أصحاب الطلبات بالعشرات أمام هذا الموظف لإنهاء الإجراءات المطلوبة. وإذا أراد أحد أن يسرع فعليه أن يضع من بين الأوراق الشرعية الكبيرة أوراقا أخرى شرعية من ذات الفئات المالية الكبرى، لا تقل عن الخمسين جنيها. فقد أصبح الأمر مزايدة. من يدفع أكثر ينهى إجراءاته بسرعة أكبر. ويصبح كله ورقا شرعيا. بل إن كلامه يصبح تبريرا لفعله. ماذا يفعل وراتبه أقل من الحد الأدنى للأجور. وقد خلت به وعود الحكومة فلم يعد لديه إلا الناس، تدفع الطبقة المتوسطة التى لديها عقار تشهره إلى من يساعدها على إشهاره من الطبقة الفقيرة وصغار الموظفين. ولا أحد يتذكر فى هذه اللحظة الأحاديث النبوية التى تلعن الراشى والمرتشى، وإلا تتعطل مصالح الناس. لا يجد الفقراء ما يشترون به من خبز. ولا تجد الطبقة المتوسطة من يشهر لها عقارها.

وقد تسرى عدوى الإضراب من الإضراب الاقتصادى إلى الإضراب السياسى، من الإضراب الشرعى إلى الإضراب اللاشرعى، من الإضراب من أجل الخبز إلى الإضراب من أجل السلطة، من الإضراب الخاص إلى الإضراب العام، من الإضراب من أجل مزيد من الكسب الوظيفى إلى الإضراب ضد الدولة والالتحام بالمعارضة السياسية لإثارة الشعب ضد النظام السياسى كله.

وبهذه الطريقة ينتشر الفساد، بل تعطى له الشرعية. فماذا يفعل الموظف الصغير بين تكاليف الحياة وعجز الدولة عن السداد؟ لا يجد إلا الطبقة المتوسطة التى تريد قضاء مصالحها. فإما أن يثور ضد الدولة وإما أن يرتشى. والرشوة أسهل وأسرع، وأقل تكلفة، وأقل خطورة إذا أصبحت الرشوة جزءا من الدخل للموظف الصغير، ومكونا من مكونات النظام السياسى. فساد الأخلاق ولا فساد الدول، والتحول من شرعية الثورة فى ميدان التحرير إلى شرعية الفساد فى مكاتب الموظفين. وكلما تعطلت المصالح الحكومية بسبب الإضراب زادت الرشوة لقضاء المصالح. ولا يمكن مواجهة هذه الظاهرة بالخطاب الخلقى الذى لا يطعم جائعا ولا يلبى احتياجات فقير، ولا يحقق أهداف ثورة. إنما يمكن ذلك بتخفيف البيروقراطية. فبدلا من عشرات الإمضاءات والتوقيعات للتوكيلات والتسجيلات، الأصول والصور، وتعدد الأماكن لإنجازها، كل توقيع فى مكان، يمكن القيام بذلك فى مكان واحد، وبعدد أقل من الموظفين. فكلما سهلت الإجراءات قلت الحاجة إلى تسهيلها عن طريق الرشوة. ويشعر الناس بأن الثورة لم تمسهم ولم تصلهم، ولم تغير مجرى حياتهم. ويمكن تكثير الموظفين والمساهمة فى حل مشكلة البطالة. ويمكن تكثير المكاتب وزيادة ساعات الدوام. ويمكن الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة التى تتبع فى استخراج البطاقة الشخصية ورخصة السيارة وكل الوسائل الحديثة لجمع البيانات واستخلاصها والتى تتبعها مراكز الإحصاء والمراكز القومية للاستعلامات.

حينئذٍ يشعر المواطن بالثورة فى الحياة اليومية. وهل يمنع الفساد الأصغر من الفساد الأعظم بالملايين فى بيع أراضى الدولة وبيع الغاز لإسرائيل؟ وهل ينقذ ذلك من وقت العمل الوطنى بالإسراع فى إنهاء الإجراءات الإدارية العتيقة؟ وهل المواطن حريص على وقته حتى لا يضيعه فى الوقوف فى طابور؟ وماذا فعل فى مكتبه وهو جالس؟ إن لم يتحول العمل إلى واجب وطنى فإن زيادة عدد الموظفين وأماكن تواجدهم لن تؤثر فى إنجاز العمل وسرعته ودقته وأمانته، وإن ضاقت السبل به. فإن نزل إلى الشارع مطالبا بحقه فهو إرهابى مخرب. وإن حاول زيادة دخله عن طريق الارتشاء فهو مرتش خاضع للقانون. فلا حل أمامه إلا الاستمرار فى تحمل الجوع وتعطيل مصالح الناس.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية